منذ أكثر من عشرين سنة وأنا أحاول بناء جسور بين الإسلام والمسيحية، وتبديد الجهل وسوء الفهم بينهما.
الإسلام دين ثاني أكبر أمّة في العالم، وثاني أكبر الأديان في بريطانيا، وعليه فإن الجسور بين الإسلام والمسيحية مسألة يجب أن تعني كل شخص يتحلى بالمسؤولية. وكان هذا أحد أسباب إقبالي على المشاركة في كثير من مشاريع بناء الجسور بين الأديان، ومن بينها المساعدة في تأسيس مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية، وتأسيس مدرسة الأمير للفنون التقليدية في عام 2004. وكان لي الشرف في عام 2008 أن أكون أول غربي ومسيحي يحصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة الأزهر في القاهرة، هذه الجامعة التي يعود تاريخها إلى 1000 عام. ولسوف أواصل بناء الجسور حيث أمكنني ذلك.
إنني أشعر منذ حين بقلق شديد بشأن كل الطوائف الدينية في الشرق الأوسط التي تعاني معاناة شديدة في الوقت الحاضر. لا بد من احترام حقوق أتباع جميع الديانات في الشرق الأوسط، لكن يحزنني أشد الحزن أن الطوائف المسيحية القديمة هي من بين من يواجهون صعوبات متزايدة، رغم أن جزءا من تاريخهم الطويل الممتدة جذوره عميقا في المنطقة يشهد على مآثر الزعماء المسلمين في الماضي من تسامح وتفهم.
ويبدو لي أن جسور التفاهم التي تعنينا جميعا تتعرض للتدمير عمدا بأيدي متشددين متزمتين لديهم مصالح شخصية بتدميرها – حيث يلجأون لتحقيق مآربهم إلى الترهيب والتهم الباطلة والاضطهاد المنهجي. لكنني أدعو الله وآمل بكل صدق ألا يستمر هذا الحال.
من الأهمية بمكان أن نتذكر أن المسيحية ولدت، فعلا لا مجازا، في الشرق الأوسط. والطوائف المسيحية هناك تعود بنا مباشرة إلى بداية عهد الكنائس، وهو ما ذكرتني به زيارتي لكنيسة السريان الأرثوذكس في لندن قبل بضعة أشهر، حيث استمعت إليهم يتحدثون ويرتلون باللغة الآرامية، لغة السيد المسيح نفسه.
لقد نعمت منطقة الشرق الأوسط بحياة كنسية زاخرة على مدى ألفي عام، وبكل طوائفها – الأنطاكية والروم الأرثوذكس والقبطية والسريانية والأرمن الأرثوذكس، وكنائس الملكية والموارنة والسريان الكاثوليك والكلدان والروم الكاثوليك، إلى جانب الكنيسة الشرقية وكنائس تأسست في مرحلة لاحقة، بما فيها الكنيسة الإنجليكانية.
لكن، مع ذلك، تعيش في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حاليا أقل نسبة من المسيحيين في العالم – إذ يمثلون أربعة في المائة فقط من تعداد سكان المنطقة، وبات واضحا أن عدد المسيحيين في الشرق الأوسط قد انخفض بشكل ملحوظ خلال القرن الماضي وما زال مستمرا بالانخفاض.
ولهذا أثره علينا جميعا، رغم أن من يتأثرون به في الأساس هم بالطبع المسيحيون الذين لم يعد باستطاعتهم مواصلة العيش في الشرق الأوسط: وجميعنا سنخسر عندئذ شيئا عزيزا لا يُعوّض حين يبدأ تراث عريق كهذا بالتلاشي. ومن المهم أن ندرك أن العرب المسيحيين – سوريين وعراقيين وفلسطينيين ومصريين، ومن دول عربية أخرى ومن إيران – ليسوا مسيحيين غربيين يعيشون في الشرق الأوسط، بل هم مواطنون عرب وشرق أوسطيون أصلا وفصلا، وبصفتهم هذه يشكلون جزءا لا يتجزأ من نسيج المجتمع في الكثير من دول الشرق الأوسط. وخلال زياراتي إلى الشرق الأوسط أثار إعجابي وبعث على تفاؤلي ما عرفته عن كثير من الروابط والصداقات التي تتجاوز الحدود بين المجموعات العرقية والدينية.
أدرك تماما أن الشرق الأوسط ليس الجزء الوحيد من العالم الذي يعاني فيه المسيحيون، كما أن المسيحيين ليسوا الوحيدين الذين يعانون هناك. لكن بالنظر إلى الظروف الحرجة التي تعيشها الطوائف المسيحية في الشرق الأوسط اليوم، شعرت أنه يجدر بنا لفت الأنظار إلى محنتهم الحالية. وفي هذه المناسبة، أود أن أرحب بما يُبذل من جهود للمحافظة على تقاليد الضيافة والاعتدال في الشرق الأوسط رغم الضغوط الحادة الراهنة.
فكما شاهدنا أنا وزوجتي بأنفسنا خلال زيارتنا في العام الماضي، قامت المملكة الأردنية الهاشمية مرة أخرى بواجب الضيافة على أفضل وجه حين استقبلت عددا هائلا من اللاجئين – وهذه المرة من سوريا، في خضم المشاكل الحالية. ويعتبر الأردن، سواء في عهد الملك الراحل حسين أو في ظل جلالة الملك عبد الله الثاني، مثال الجرأة التي تشرح الصدر بما يسوده من تسامح مثمر واحترام متبادل بين أتباع الديانات المختلفة.
وأظهر آخرون في المنطقة إنسانية مدهشة باستقبالهم لأعداد غفيرة من اللاجئين، رغم ما يشكله ذلك من عبء ثقيل على مواردهم.
ومهما كان اختلاف الصورة في مناطق أخرى، فإنني أحيي جهود خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز عاهل المملكة العربية السعودية، وآخرين، لتشجيع الحوار والتفاهم بين الأديان. كما سرني أيضا لقائي بمسيحيين من أتباع كنائس وأبرشيات كثيرة خلال زيارتي إلى قطر في شهر (شباط).
إن هذا هو الوقت المناسب لمضاعفة جهودنا المشتركة لتأكيد ما يربط بين الديانات الإبراهيمية الثلاثة: المسيحية واليهودية والإسلام، لنعبّر عن الاستياء الشديد مما يباعد بيننا. وإذ نفعل ذلك، فإن من المهم أن نذكّر أنفسنا بأن التأكيد على حب الجار، وحب الخير للغير كما نحبه لأنفسنا، هو الأساس الأمثل للحق والعدالة
والرحمة وحقوق الإنسان – وهذا نفس الطريق الذي أشارت إليه مبادرة «كلمة سواء» عام 2007، التي تحظى الآن بمصادقة كثير من الفقهاء المسلمين، حيث تمثل هذه الحكمة المتعمقة جوهر جميع الأديان الثلاثة، رغم ما يكون قد شاب هذه الرسالة من غموض.
وبالتالي تتجه أفكاري وأوجه دعائي نحو كافة المجتمعات المعرضة للاضطهاد، بغض النظر عن ملتها أو مذهبها، وبالإضافة إلى الصلاة والدعاء لأجلهم، علينا أيضا أن نجهر بصوتنا دفاعا عن هؤلاء الناس، وأن نبذل الجهود لمساعدتهم جنبا إلى جنب مع جميع أصدقائنا المسلمين. ألم يذكر القرآن في سورة المائدة: «… لكُلّ جَعَلْنَا منكُمْ شرْعَة ومنْهَاجا وَلَوْ شَاء اللهّ لَجَعَلَكُمْ أُمّة وَاحدَة وَلَكن لّيَبْلُوَكُمْ فيما آتَاكُم فَاستبقوا الْخَيْرَات إلَى اللهّ مَرْجعُكُمْ جَميعا فَيُنَبّئُكُم بمَا كُنتُمْ فيه تَخْتَلفُونَ» (المائدة – الآية 48).