الأخبار

نحو سقوط «الدولة العربية» أمام تحالف «داعش» والأمريكيين!

أنهت أنظمة «الزعيم الأوحد» و«القائد الخالد» و«الرئيس الملهم» المفتوحة أمامه أبواب القمة «إلى الأبد»، والتى امتدت دهرا تبدّى وكأنه بلا نهاية، العمل السياسى فى الوطن العربى بمشرقه ومغربه جميعا.. صادر «الحزب القائد» الحياة السياسية، ثم سرعان ما جرت تصفية كادراته الأساسية من المفكرين والمجتهدين والمناضلين الجديين ليمكن اختصاره فى “الزعيم الملهم”.

ولقد خاضت بعض الأحزاب والقوى الحية فى المجتمع مقاومة بائسة لفترة، فلما أنهكها الصراع تلقت العرض الكريم من “النظام”: أن يعطيها مقاعد فى “البدعة” التى اعتمدها لتجميع مختلف القوى السياسية ذات التاريخ فى “جبهة وطنية ــ تقدمية”… ثم تكرّم عليها بمقاعد ثانوية فى “حكومات الوحدة الوطنية” لصاحبها “السيد الرئيس ــ القائد الملهم ــ بانى الدولة الحديثة”.

وحدها التنظيمات الإسلامية ــ وحركة الإخوان المسلمين أبرزها ــ ظلت فى موقف المعارض أو المعترض ثم الخصم بل العدو فى تصنيفات النظام القائد المفرد، حتى انقلاب الرئيس الراحل أنور السادات على ثورة جمال عبدالناصر، فى بداية السبعينيات… وفى غمار التراجعات التى جسدها ذلك الانقلاب الذى أخذ نظام السادات إلى إسرائيل، وجد «النظام» فى سياساته الجديدة مساحة للإخوان المسلمين الذين دجنوا، فى المقاعد الخلفية لمسيرة الصلح والتطبيع مع العدو الإسرائيلى.

وكان بديهيا أن تستنبت سياسات هذه الأنظمة التى دمّرت دولها ومجتمعاتها تنظيمات إسلامية الشعار، سلفية فى تشددها على التتلمذ على المفكرين المكفّرين من الدعاة الذين خرجوا بالدين الحنيف من أصوله وعليها.

هكذا وتحت رعاية أنظمة الاستبداد وفى حمايتها تحول العديد من التنظيمات الإسلامية التى اعترضت على “الشراكة النكراء” بين الإخوان المسلمين ــ فى موقع دونى ــ وتلك الأنظمة كما جرى فى مصر ــ السادات إلى تكفير المجتمع والتطوّع لهدايته جميعا، وليس من أجل تخليصه من قبضة الحكم الدكتاتورى الخارج على الإسلام، فحسب.

وربما يمكن التأريخ لهذا التحول الحاسم فى مسيرة التنظيمات الإسلامية ولجوء دعاتها وقياداتها إلى الاختفاء تحت الأرض ومباشرة عملهم السرى، بالاحتلال الأمريكى للعراق… وان كانت تجربة “القاعدة” فى أفغانستان (أواخر الثمانينيات) قد أمدتهم بالنموذج العملى فى الانتقال من “الدعوة” و”التنظيم السرى” إلى ميدان الفعل.

يمكن الاستشهاد بالسيرة الذاتية لعدد من قادة “داعش” و”النصرة” لمعرفة مراحل التحول فى الفكر والممارسة لديهم. فالأبرز من هؤلاء هم بين متخرجين من السجون سواء فى العراق أو فى سوريا أو فى مصر أو حتى فى ليبيا، والتهمة كانت دائما هى هى: الانتماء إلى “تنظيمات إسلامية متطرفة”، من دون النظر إلى “أصولهم” السياسية المختلفة… فمنهم من كان إسلامى التوجه من البداية، لكن العديد من “القادة” فيهم كانوا فى صفوف حزب البعث أو الإخوان.

على سبيل المثال لا الحصر فإن “الخليفة” الذى قدّم نفسه للعالم من على منبر المسجد الجامع فى الموصل، أبو بكر البغدادى، هو متخرج من سجن أبو غريب، فى بعض ضواحى بغداد، وقد أمضى فيه نحو ست سنوات، بعد اعتقاله مع دخول جيش الاحتلال الأمريكى بغداد، المدينة التى بناها الخليفة العباسى أبو جعفر المنصور على أقرب نقطة فى المسافة بين الرافدين، دجلة والفرات، واتخذها عاصمة للخلافة العباسية.

هذا “البغدادى” الذى نصّب نفسه “خليفة” ودان له “الولاة” و”المناصرون” فى بعض البلدان العربية، لم يكن قبل السجن من الإسلاميين المتطرفين، بل لعله كان «نقشبنديا» يعمل فى حضن نظام صدام حسين. وكثرة من أمثال البغدادى وبينهم بعض “ولاته” الآن، فضلا عن المقاتلين أو المجاهدين عراقيين وسوريين وتوانسة وجزائريين ومصريين، هم متخرجون من السجون فى عواصم عربية.

كان بعضهم قد اعتقل وحوكم بتهمة الانتساب إلى تنظيم سرى، أو إلى تنظيم مسلح، وصدرت بحقهم أحكام بالسجن، فى حين أن القسم الأكبر منهم كان رهن الاعتقال من دون محاكمة، فى وضع معلّق… وكثيرا ما فتح النظام المعنى، لا سيما فى العراق وسوريا، باب التفاوض معهم ليس فقط لإعلان التوبة ومن ثم إعادة الاعتبار، بل أساسا للعمل معه، بمعنى المساعدة على كشف المخبوء من التنظيمات الإسلامية السرية، أو استدراجها إلى مصالحة مع النظام.

وعبر التصادم بين الأنظمة العربية، لا سيما فى كل من بغداد ودمشق، صار توظيف “الإخوان” أساسا، وبعض التشكيلات الإسلامية المتطرفة والتى كانت محدودة الانتشار والتأثير، من الجانبين: العراقى ضد سوريا والسورى ضد العراق، هو النهج المعتمَد فى الحرب والحرب المضادة بين النظامين المتحدرين ــ ظاهريا ــ من حزب البعث.

أما مع الاحتلال الأمريكى للعراق فقد وجدت الأجهزة الأمنية السورية فى منح هؤلاء المتطرفين، وجلّهم من المقاتلين الشرسين الفرصة للجهاد ضد “الاحتلال الكافر”، وهكذا “نتخلص منهم ونقصر أمامهم الطريق إلى الجنة”، على حد ما كان يردّد بعض القادة الأمنيين فى دمشق.

ومؤكد أن بعضا من هؤلاء “المجاهدين” قد تخفف من القتال ضد الاحتلال الأمريكى للعراق، وعاد عبر الطريق التى يعرفها جيدا، لكى «يجاهد» ضد النظام فى دمشق، وبعدما بات أكثر خبرة بأساليب القتال وبأنواع الأسلحة، خصوصا وقد عاش فى قلب الفوضى الدموية التى عصفت ولا تزال تعصف بالعراق والعراقيين فى ظل سلطة الفساد والعجز التى أقيمت تحت رعاية الاحتلال حاملة معها كل ما يشجع على الفتنة المذهبية، بين الشيعة والسنة، والفرقة القومية، بين العرب والأكراد… والسلاح مشاع يمكن لكل قادر أن يأخذ منه ما يشاء.
… ولقد أخذ منه “الخليفة أبو بكر البغدادى” فى غزوته إلى الموصل ما يكفى لتسليح جيش كامل، مدافع ودبابات ومدرعات ومخازن ذخيرة، فضلا عن بضع مئات من ملايين الدولارات وجدها محفوظة لـ “جهاده” فى فرع المصرف المركزى فى عاصمة محافظة نينوى وإحدى أقدم المدن فى التاريخ الإنسانى: الموصل.

لقد كانت سجون النظام فى كل من بغداد ودمشق معاهد التدريب والإعداد لآلاف من “المجاهدين”… وهكذا فإنهم عندما باشرت جحافلهم التقدم فى اتجاه الموصل العراقية، كانت بعض فرقهم قد احتلت مدينة الرقة السورية، لتشكل قاعدة خلفية لهم.

أما السياسة فقد وفرت لهم عبر غض النظر التركى الفرصة لأن يتمدّدوا فى المساحة الشاسعة الفاصلة بين نهرى دجلة والفرات، متقدمين بالنار ليدمروا آخر ما تبقى من متردّم الخلافتين الأموية والعباسية، أما الفضاء فقد صار مفتوحا أمام الطيران الأمريكى، بل الغربى عموما، ليعيد احتلال سماء “الخلافة” المبتَدَعة حديثا، والتى تعتمد إحراق البشر وسبى النساء ومصادرة ثروات الأرض.

هكذا أوصلت سياسة أسلمة الناس (مجددا) بالأمر! وفى ظل خناجر القتل أمام عدسات التصوير، وبإخراج عصرى متميّز، إلى أمركة الفضاء، بداية، تمهيدا للمطالبة بعودة الاستعمار (أهل الكفر) مجددا إلى أرض الإيمان.

وعلى امتداد الجبهات التى فتحتها جيوش “داعش” بالنار فى مشارق الأرض ومغاربها (حتى لا ننسى ليبيا)، فإن هذا “التنظيم الجهادى” من مواليد القرن الحادى والعشرين، قد أغفل جبهة واحدة أو أنه وقف عند “حدودها” مرسلا إشارات ودّ وصداقة، أو أقله عدم اعتداء، هى الجبهة مع العدو الإسرائيلى فى الجولان السورى.

وفى منطق تنظيم «الدولة الإسلامية فى العراق والشام» فإن إيطاليا أولى بأن تكون الهدف التالى لغزواته من تحرير فلسطين بالقدس فيها وهى أولى القبلتين وثالث الحرمين، وهكذا فإنه يجهز جيوشه لعبور البحر الأبيض المتوسط، ممهدا بالمذبحة التى ارتكبها ــ وفاخر بأن يعمّم صورها على الدنيا ــ بحق مجموعة من العمال المصريين الفقراء الذين جاءوا لكى يبيعوا عرق جباههم بما يوفر الخبز لعيالهم… ولقد اختار «الجهاديون» البررة أن يكون هؤلاء العمال من الأقباط، تدليلا على عميق التزامهم بالشريعة السمحاء، تماما كما فعلوا مع فقراء الإيزيديين والشبك فى شمالى العراق.

المهم أن تلك الدول العربية جميعا قد دالت أو أنها فى طريق الاندثار تقسيما أو تشطيرا بينما يعود الاستعمار (الجديد) بطلب من حكامها الذين لم يحفظوا الأوطان ودولهم فيها، ولا الشعوب ورعاياهم منها، وان العرب يغوصون فى بطن التاريخ مجددا بحثا عن هويتهم وموقعهم من الدنيا!

Shares: