الأخبار

’المقاومة المبدعة‘ في الفكر المسيحي الفلسطيني المعاصر

 

احتفلت المبادرة المسيحية الفلسطينية والمعروفة باسم كايروس فلسطين مؤخرًا بالذكرى السابعة لإطلاق وثيقة «وقفة حق»، وقد جاءت هذه الاحتفالية تحت عنوان “الإيمان، الصمود، المقاومة المبدعة”. ولقد لعب المسيحيون الفلسطينيون وعلى مر العصور دورًا أساسيًا في النضال الوطني الفلسطيني وكانوا من أوائل الذين تصدوا للغزو الأوروبي من جهة وللإستيطان الاسرائيلي من جهة أخرى.

ومن يتأمل تاريخ الفكر المسيحي الفلسطيني في الأراضي المقدسة في القرن المنصرم سيكتشف ستة أنماط من المقاومة المبدعة التي انخرط فيها المسيحيون الفلسطينيون والتي جاءت في سياق ست حقب رئيسية من تاريخ فلسطين الحديث، وقد برز في كل حقبة مجموعة من القيادات المسيحية الفلسطينية.

1) الحقبة الأولى 1917

في السنة القادمة 2017 ستحل الذكرى المئوية لوعد بلفور الذي أعطى فيه ما لا يملك الأرض لمن لا يستحق. وقد جاء هذا الوعد من اللورد البريطاني بلفور إلى اللورد اليهودي روتشيلد بإقامة وطن قومي لليهود كجزء من مخرجات الحرب العالمية الأولى. فلقد شكلت الحرب العالمية الأولى محطة مفصلية في تاريخ البشرية. فمع انهيار الإمبراطورية الاستروهنغارية ومع سقوط ألمانيا القيصرية وبروز الثورة الشيوعية وتفكك الإمبراطورية العثمانية سنحت الفرصة لكل من بريطانيا وفرنسا أن تتقاسما الشرق الأوسط فيما بينهما على يدي سايكس و بيكو لما فيه مصلحة القوتين العظميين.

وفي خضم هذه الأحداث وبينما كانت الجيوش البريطانية في شبه جزيرة سيناء مستعدة لاحتلال فلسطين، سارع بلفور بكتابة وعده لزميله روتشيلد.

وكانت حركة الهجرة والاستيطان اليهودي في فلسطين قد بدأت قبل ذلك بعقدين من الزمن. وقد كان المسيحيون الفلسطينيون من أوائل الأشخاص الذين تنبهوا لخطر الصهيونية، فكتب نجيب عازوري في عام 1905 كتابه الشهير عن يقظة الأمة العربية، والذي تصدى فيه إلى خطر الصهيونية ونادى بتأسيس كنيسة عربية وطنية فلسطينية واحدة بعيدًا عن الطائفية.

أما نجيب نصار رئيس تحرير جريدة الكرمل فقد أصدر في عام 1911 كتابه عن الصهيونية والذي حذر فيه من خطرها على مستقبل فلسطين. كما وانبرى نجيب نصار لمقاومة الطائفية وأدرك برؤيته الثابتة أن الطائفية والكولونيالية إنما هما وجهان لنفس العملة. وفي هذه الحقبة انبرى المطران غريغوريوس حجار من كنيسة الروم الملكيين بمهاجمة المشروع البريطاني في فلسطين مبينًا خطره وخطر الصهيونية على مستقبل المنطقة.

وينقصنا الوقت للتطرق إلى شخصيات أخرى كثيرة مثل عيسى العيسى والقس الياس مرمورة الذين أسسوا لحركة وطنية فلسطينية تنبهت في وقت مبكر جدًا إلى خطر الصهيونية، والتغلغل الأوروبي، وراحت تحارب الطائفية والاستعمار بكل أشكاله.

2) الحقبة الثانية 1936- 1939

مع منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي أدرك الفلسطينيون أن الانتداب البريطاني لم يأت ليؤهل فلسطين للحرية السياسية ولبناء الدولة الفلسطينية وإنما جاء تلبية للمطامع البريطانية الاستعمارية من جهة وكمقدمة لقيام الدولة اليهودية على الأرض الفلسطينية.

ومع ازدياد الهجرة اليهودية إلى فلسطين بعد اعتلاء هتلر سده الحكم في ألمانيا، بدأ الفلسطينيون إضرابهم الشهير عام 1936 والذي استمر زهاء ثلاث سنوات. في هذا الفترة نرى العديد من الشخصيات المسيحية الوطنية ترفع صوتها عاليًا في فلسطين كما في المحافل الدولية ، نذكر على سبيل المثال لا الحصر توفيق كنعان، كبير الإثنوغرافيين الفلسطينيين الذي أصدر إبان فترة الإضراب الكبير كتابه “قضية عرب فلسطين” مبينًا خطر الاستيطان والهجرة اليهودية على مستقبل المنطقة. ومن يقرأ هذا الكتاب ضمن السياق الحاضر للإستيطان اليهودي سيظن أن هذا الكتاب قد كتب للتو ففيه من بعد النظر الكثير الكثير.

لم يكن توفيق كنعان الوحيد من بين أقرانه، بل هناك شخصيات أخرى كثيرة قبل عيسى البندك وغيرهم الذين راحوا يتصدون للسياسة البريطانية بتسليم فلسطين إلى اليهود.

في هذه الفترة نجد كيف أن العديد من القساوسة اللوثريين أمثال القس حنا بحوث، وسعيد عبود، وشديد باز حداد، راحوا في عظاتهم ودروسهم الدينية يعالجون خطر الصهيونية ويدعون إلى مواقف وطنية محذرين من أساء استخدام الكتاب المقدس باسم الصهيونية لاحتلال الأرض.

3) الحقبة الثالثة 1947-1948

لقد صدر في 29-11-1947 قرار الأمم المتحدة القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين واحدة يهودية وأخرى عربية، مع وضع دولي خاص للقدس وضواحيها. ولم يلق هذا القرار قبولاً فلسطينيًا إلا من مجموعات صغيرة رأت فيه أصغر الشرّين.

ولكن أطاحت النكبة والني جاءت ستة شهور بعد صدور القرار لتقلب الموازين. فجراء النكبة خسر الفلسطينيون قرابة 77% من الأرض ، وتهجر أكثر من 700,000 منهم وكان من بين المهجرين قرابة 47 ألف مسيحي فلسطيني.

في هذه الفترة تغير الدور المسيحي الفلسطيني. فقبل النكبة كان الدور المسيحي هو دور لأفراد أكاديميين أو رجال دين وطنيين راحوا يكتبون ويحذرون من خطر الاستعمار الأوروبي واليهودي. أما وقد تشرد الشعب ودكّت قراه فقد حان الوقت لجهد مسيحي وطني جماعي. في هذه الحقبة نرى المؤسسات المسيحية تنخرط في إغاثة المنكوبين. في هذا السياق تم تأسيس البعثة البابوية إلى فلسطين في 18-6-1949، كما وقام الإتحاد اللوثري العالمي بتحويل مستشفى المطلع لإغاثة المنكوبين وبدأ بحملة إغاثة واسعة النطاق.

كما وأسس مجلس الكنائس العالمي برنامجًا خاصًا لمساعدة اللاجئين. ولكن لم ينحصر الدور المسيحي في برامج الإغاثة، بل وبعد أن يئس الفلسطينيون من الدول العربية ورأوا بلادهم وقد ضاعت منهم، أسس نفر منهم أمثال جورج حبش ووديع حداد حركة القوميين العرب منادين بالمقاومة المسلحة عنوانًا لهذه المرحلة، على أساس إن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.

وقد تميزت هذه المرحلة بمحاولات عدة لتعريب الكنيسة ومقاومة الهيمنية الأجنبية فيها. في هذه المرحلة تم رسامة الأب منصور جلاد من يافا كأول مطران مساعد للبطريرك اللاتيني، وذلك عام 1947 تبعه حنا كلداني كمطران مساعد آخر في الناصرة عام 1964، كما وتم دعوة المؤتمر الأرثوذكسي للإجتماع بهدف تعريب الكنيسة وذلك عام 1956 بعد أن فشلت محاولات مماثلة في الأعوام 1923، 1931، 1944. وفي هذا السياق تم رسامة أول مطران أسقفي عربي وهو المرحوم نجيب قبعين، كما وتم تأسيس أول مجمع (سنودس) لوثري عام 1959 حيث تم الاعتراف الرسمي بالكنيسة الإنجيلية اللوثرية في الأردن. وقد برز في هذه المرحلة القس د. زيد عودة راعي الكنيسة الإنجيلية الوطنية في بيروت الفلسطيني الأصل.

وقد تأثرت حركات التعريب هذه بالفكر القومي العربي الذي جسده جمال عبد الناصر خاصة بعد تأميم قناة السويس عام 1976. ولكن ومع خسارة عبد الناصر لحرب 1967، اتجه الكثير من المسيحيين الفلسطينيين إلى الفلسفة الشيوعية بأشكالها الماركسية واللينينية والماوية تماشيًا مع المد العالمي لهذه الحركات منتصف الستينيات.

4) الحركة الرابعة 1967

لقد شكل احتلال الضفة الغربية وغزة والجولان ضربة قاسية للحركات القومية العربية. وقد تمخض عن هذا الاحتلال بروز منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعيًا ووحيدًا للشعب الفلسطيني ولقد شكل المسيحيون الفلسطينيون جزءًا لا يتجزأ من حركة التحرر الوطنية هذه. وبرزت بيروت هنا مركزًا لا لمنظمة التحرير فحسب بل للإنتلجنسيًا الفلسطينية أيضًا.

وقبل أن تضع حرب 1967 أوزارها اجتمع نفر من اللاهوتيين العرب في بيروت نذكر منهم الأب جان كوربون، الأب جورج خضر، السيد ألبرت لحام، القس سمير قفعيتي، والسيد جابرئيل حبيب لكتابة أول وثيقة لاهوتية مسكونية بعنوان “نظرة لاهوتية على الصراع العربي الاسرائيلي”. في هذه الوثيقة تصدى الكتاب إلى الفكر المسيحي الصهيوني الذي رأى في احتلال الضفة نصرا من عند الله. كما وأصدر الاتحاد العالمي للطلبة المسيحيين وثيقة العدل والسلام في الشرق الأوسط والتي كانت أول وثيقة لاهوتية تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية.

وقد أقام مجلس كنائس الشرق الأوسط في هذه الحقبة عشرات المؤتمرات والتي تمحورت حول القضية الفلسطينية والذي برز فيها بالإضافة إلى الشخصيات التي سبق ذكرها الأب بول ترزي والقس فؤاد بهنان وغيرهم.

كما وقامت منتديات كاثوليكية كثيرة مثل لجان العدل والسلام ومركز كيرلس بإصدار عشرات البيانات المنادية بعدالة القضية الفلسطينية واستحقاقها، هنا أيضًا كان الأب د. رفيق خوري والمطران لطفي لحام على رأس هذا الحراك.

ولقد مهدت حرب 1967 الطريق لصعود الحركات الدينية، فبعد أن فقد الكثيرون آمالهم بالقومية العربية توجه الكثيرون إلى الحركات الدينية، كما وشكل احتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية بالتحديد مرتعًا خصبًا للحركات الدينية اليهودية الاستيطانية أمثال غوش إيمونيم وغيرهم، كما ونرى حركة المسيحيين الصهاينة وقد استعادت عنفوانها نتيجة الحرب.

ولقد رأى المسيحيون الفلسطينيون أنفسهم في مواجهة هذه الحركات الدينية قاطبه، فلم يركبوا موجة الحركات الدينية بل راحوا يقاومونها بكل ما أوتوا من قوة. وقد برز في هذه الحقبة شخصيات مسيحية وطنية أمثال المطران هيلاريون كبوجي والأب ابراهيم عياد.

5) الحقبة الخامسة 1987

مع نهاية الحرب الباردة ويأس الفلسطينيين من الدول العربية أخذ الأكاديميون الفلسطينيون في الضفة وقطاع غزة زمام المبادرة والتي تجلت في الانتفاضة الشعبية لعام 1987.

وقد تميزت هذه الانتفاضة الأولى بالمقاومة الشعبية والمظاهرات السلمية. وتصدر رجال الدين المسيحيين صدارة المظاهرات هم وإخوانهم رجال الدين المسلمين بالإضافة إلى القيادات السياسية الوطنية. وفي هذه الحقبة جسدت مدينة بيت ساحور مثالاً رائعًا في المقاومة السلمية تجسيدًا لهذا الدور المسيحي الوطني لتلك الحقبة.

ولقد دفعت الانتفاضة الأولى القيادات المسيحية ورؤساء الكنائس لإصدار بيانات المناصرة للانتفاضة والمدافعة عن الحق الفلسطيني حيث صدر البيان الأول في 22-1-1988 أي أسابيع قليلة فقط بعد منشور الانتفاضة الأولى. كما ودفعت الانتفاضة بالفاتيكان لرسامة ميشيل صباح أول بطريرك فلسطيني للديار المقدسة.

كما وقام مركز اللقاء للدراسات الدينية بإطلاق وثيقة اللاهوت والكنيسة المحلية والتي فتحت الباب لكتابه لاهوت مسيحي للسياق الفلسطيني. وقد اشترك في كتابة هذه الوثيقة وفي مركز اللقاء شخصيات كنسية، البطريرك ميشيل صباح، المطران لطفي لحام، القس منيب يونان، الأب رفيق خوري، القس د. متري الراهب، وشخصيات أخرى مثل يوسف زكنون، بيتر قمري، جورج هنتليان، شكري صنبر، عدنان مسلم ، لورنس سمور وغيرهم.

كما وتم في هذه الحقبة مأسسة اللاهوت الفلسطيني عبر مراكز ثلاثة: مركز اللقاء للدراسات الدينية والذي أسس عام 1982، مركز السبيل للاهوت التحرر عام 1989، ودار الندوة الدولية – ديار عام 1995. كما وتميزت هذه الحقبة بغزارة الانتاج الأدبي اذ تم إصدار ما يزيد عن 25 كتابًا لاهوتيًا باللغات العربية والإنجليزية والألمانية والفرنسية.

6) الحقبة السادسة 2009

لقد جاء الانقسام الفلسطيني عام 2007 ليشكل تدهورًا خطيرًا في المشروع الوطني الفلسطيني. بل ولقد تميزت هذه الحقبة بيأس من مقاومة مسلحة لم تؤت أوكلها وعملية سلمية لم تأت بالسلم بل زادت المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية. في هذا السياق شعر مجموعة من المفكرين المسيحيين بضرورة رفع صوتهم عاليا ً منادين بطريق ثالث هو طريق المقاومة المبدعة.

لذلك قامت هذه الشخصيات المسيحية والمكونة من البطريرك ميشيل صباح، المطران عطا الله حنا، القس د. متري الراهب، الأب جمال خضر، القس نعيم عتيق، القس يوحنا كتناشو، القس فادي دياب، د. جريس خوري، والسيدات سيدر دعيبس، نورا قرط، لوسي ثلجية، والسادة نضال أبو الزلف، يوسف ضاهر، ورفعت قسيس بإطلاق وثيقة وقفة حق – كايروس فلسطين وذلك في دار الندوة الدولية في 11-12-2009. وقد أراد مؤلفو هذه الوثيقة أن يقولوا كلمة الإيمان ضد الأوصوليات الدينية على اختلاف أنواعها، وكلمة رجاء في زمن اليأس المحبط، وكلمة محبة عنوانًا لمقاومة مبدعة تبغي الحياة لا الموت. ولقد شكلت هذه الوثيقة صوتًا مسيحيًا فلسطينيًا وطنيًا واعدًا وموحدًا.

وإذ احتفلت المبادرة المسيحية الفلسطينية كايروس فلسطين في الأسبوع المنصرم بعامها السابع، إلا وأدركت أنها تواجه اليوم تحديات صعبة وعظيمة.

فمن جهة يواجه الفلسطينيون نظامًا سياسيًا اسرائيليًا إحلاليًا، هذا بالإضافة إلى صعود يمين متطرف جديد في أوروبا وأمريكا، ناهيك عن الداعشية الإسلاموية، وتعاظم الصهيونية المسيحية وتفتت الدولة القومية العربية بالصراعات الداخلية الطائفية منها والأثنية.

أمام هذه التحديات لا بد من وقفة حق والمناداة بإيمان واعٍ وعاقل، ولا بد من الصمود على الأرض ومحاربة الهجرة والانكفاء السياسي، ولا بد من مقاومة مبدعة تشكل المقاطعة أحد مقوماتها.

وهكذا شكل الفلسطينيون المسيحيون جزءًا لا يتجزأ من الحركة الوطنية الفلسطينية واعتمدوا أشكالاً مختلفة من المقاومة أتت متماشية مع السياق التاريخي والإقليمي والعالمي، وشكلت صوتًا نبويًا انسانيًا مميزًا.

Shares: