تصدّر إغلاق كنيسة القيامة مؤخرًا عناوين الصحف في جميع أنحاء العالم، وقد نظر الكثيرون إلى هذه الخطوة على أنها سابقة تاريخية اتخذها رؤساء الكنيسة في القدس ردًّا على تصعيد المستوطنين والمسؤولين الإسرائيليين تجاه العقارات والممتلكات الكنسية. وفي حقيقة الأمر، لقد شجب رؤساء الكنائس الظلم الذي يعانون منه نتيجة الممارسات الإسرائيلية بما فيها محاولات الاحتلال الرامية إلى طمس الهوية المسيحية لحارتي النصارى والأرمن في البلدة القديمة من القدس والتي باتت تُعرف باسم قضية ميدان عمر بن الخطاب” باب الخليل”، وتجميد الحسابات المصرفية للعديد من الكنائس في المدينة المقدسة. ومع ذلك، فإن تساؤل الكثيرين عمّا إذا كان النزاع المالي هو الإجراء الوحيد الذي تمّ الاحتجاج عليه وإغلاق كنيسة القيامة بسببه يجيب عليه سياسات الاحتلال غير القانونية التي تفرضها على الشعب الفلسطيني عامة وعلى المسيحيين الفلسطينيين خاصة باعتبارها سياسات يومية تعكس واقعًا أليمًا يتعدى مجرد الاملاءات المالية الاسرائيلية إلى ظلم شامل يتعرض له المجتمع الفلسطيني بأكمله
تهدف الإجراءات الإسرائيلية إلى تغيير الاتفاق التاريخي والقانوني للوضع القائم الخاص بالكنائس وأملاكها في مدينة القدس. وكما نعرف ينظم اتفاق الوضع القائم الخاص بالأماكن المقدسة في مدينتي القدس وبيت لحم حقوق الطوائف المسيحية المختلفة وواجباتها، بما فيها مكانة الأماكن الإسلامية المقدسة. ومن الجديرذ ذكره أن هذا الاتفاق قد صدر بموجب فرمان رسمي أقرته الامبراطورية العثمانية عام 1757 وتمّ التأكيد عليه عام 1852، بعدها تمّ وضعه كمعاهدة ضمن إطار معاهدة باريس للعام 1856 ومعاهدة برلين للعام 1878. وقد حظيت المعاهدة بالاحترام من قبل كل من الانتداب البريطاني والأمم المتحدة والأردن.
من الناحية التاريخية وكاعتراف بالخدمات في مختلف القطاعات التي تقدمها الكنائس إلى الفلسطينيين بصرف النظر عن انتمائهم الديني، كانت الحكومات تعفي الكنائس من دفع ضريبة الأملاك، واستمرت هذه الممارسة لقرون عدة، لكننا نرى أن الحكومة الأسرائيلية في الوقت الراهن تضع هذه الممارسة موضع شك وتحاول بشتى الطرق إنهائها، مما يشكل انتهاكًا للقانون الدولي. ولا يحق لإسرائيل بوصفها دولة احتلال تغيير الوضع القائم للمواقع الدينية (ومن ضمنها الحرم القدسي الشريف) أو إنهاء الإعفاء الضريبي الممنوح للكنائس والذي دام لسنوات طوال. ومن هذا المنظور فإن مطالبة الكنائس دفع ضريبة الأملاك يعني المطالبة بقبول الضم غير القانوني لمدينة القدس الشرقية إلى إسرائيل. وبعد اعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالقدس عاصمة إسرائيل، بذل المسؤولون الإسرائيليون جهودًا كبيرة تهدف إلى تغيير هوية وطابع مدينة القدس الشرقية، بما في ذلك مواجهة الكنائس، والتوسع في بناء المستوطنات، وهدم المنازل، إضافة إلى القانون الأخير الذي يسمح للحكومة الإسرائيلية بحرمان المقدسيين الفلسطينيين من حق إقامتهم في المدينة المقدسة إن ثبت “عدم ولائهم” للسياسات الإسرائيلية وتحديّهم لها. وهذا في حد ذاته يشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني.
في الواقع لا يمكن فصل الإجراءات التصعيدية الإسرائيلية ضد الكنائس عن استهداف المسجد الأقصى، ولا بد من الإشارة في هذا الصدد إلى أن هذه السياسات تستهدف هوية الشعب الفلسطيني وتعمل على الغاء وجوده. ومن المستحيل الحديث عن الأماكن المقدسة دون الحديث أيضًا عن الشعب الذي حافظ على هذه الأماكن على مدى مئات السنين. لقد كان للعائلات الفلسطينية المسيحية والمسلمة دورًا أساسيًا في الحفاظ على الإرث التاريخي والديني للأماكن المقدسة، وهذا ما يشهد له رجال الدين المسيحيين الذين عملوا مع جميع مكونات وفئات أبناء شعبنا في فلسطين، وهذا أيضًا ما يؤكده شخصيات مقدسية بارزة مثل البطريرك ميشيل صباح ورؤساء الكنائس الآخرين الذين وقفوا صامدين وعازمين على التصدي ليس فقط للسياسات الإسرائيلية التي تهدد الاستقرار المالي للكنائس بل أيضًا للسياسات الظالمة الأخرى التي تنتهجها حكومة الاحتلال تجاه الوجود الفلسطيني
وهنا، لا يمكن أن ننسى أو نتجاهل موقف بعض المسؤولين غير الموَفق في الكنائس المختلفة عندما طلبت منهم 58 عائلة فلسطينية مسيحية من بيت جالا اتخاذ عدة إجراءات فيما يتعلق ببناء سلطة الاحتلال لجدار الضم والتوسع غير القانوني في وادي الكريميزان: “نعارض بناء الجدار بشدة، لكن لا يمكننا عمل أي شيء إن أرادت إسرائيل بناءه”. هذا موقف أحد رجال الدين المسيحيين الذي سمعته بنفسي! ألم يكن بناء الجدار العنصري بين مدينتي القدس وبيت لحم الذي يفصل كنيسة القيامة عن كنيسة المهد سببًا كافيًا للوقوف بجدارة ضده واتخاذ موقف حازم لمجابهة هذا التحدي؟ لكن في نهاية المطاف، فقد كان للموقف الذي اتخذه مسؤولون آخرون في عدة كنائس – وعلى رأسهم الأب إبراهيم الشوملي – أثر كبير في جلب اهتمام المجتمع الدولي لما يحدث في وادي الكريميزان. فقد استطاع الأب الشوملي بدعم قانوني من مؤسسة سانت إيف (المركز الكاثوليكي لحقوق الإنسان) على إبقاء شعلة الأمل مشتعلة لدى أبناء الرعية. وجميعنا نذكر أيضا الموقف البطولي للأب إبراهيم فلتس أثناء حصار كنيسة المهد منذ 2 نيسان 2002 لغاية 10 أيار 2002 في فترة الإنتفاضة الثانية
في واقع الأمر، فإن الكنائس في الأرض المقدسة جزء لا يتجزأ من النسيج المجتمعي الفلسطيني، وينص الاتفاق الشامل بين فلسطين والكرسي الرسولي بوضوح على أن الكنائس وأملاكها ومؤسساتها معفاة من دفع الرسوم الضريبية. لكن المسألة أعمق بكثير من مجرد دفع الضرائب: على الأصوات التي تدّعي انها لا تمانع دفع الضرائب إلى إسرائيل أن تذكر جيدًا بأن التحديات التي يواجهها السكان الفلسطينيون المسيحيون في الأرض المقدسة الذين يرغبون في البقاء في وطنهم لن تنتهي عن طريق التوصل إلى اتفاق بشأن الضريبة. ما نخشاه هو أن يؤدي فرض الضرائب على الكنائس إلى تهجيرما تبقى من الحجارة الحيّة من الأرض المقدسة.
تحتل مصادرة حقوق الإقامة والملكية صدارة قائمة الإنتهاكات الإسرائيلية ضد المواطنين الفلسطينيين، وقد حان الوقت أن يشعر جموع المؤمنين بأن الكناس تقف إلى جانبهم وتدافع عنهم. ولا ينبغي التعامل مع املاك الكنيسة على أنها أصول أجنبية يمكن بيعها إلى من يدفع أكثر، بل هي جزء هام من التراث الفلسطيني في الماضي والحاضر والمستقبل. ويمكننا التعاطف مع التظلمات التي يشعر بها أبناء شعبنا من المسيحيين الذين يلمسوا ضعف التواصل والترابط أحيانا بين الواقع المعاش والرؤساء الروحيين الذين من المفترض أن يمثلونهم
دعوني أقولها بوضوح: كما تعمل الكنائس والمؤسسات التابعة لها وأملاكها في اليونان وأسبانيا وإيطاليا لخدمة المؤمنين والدفاع عنهم، يجب أن يكون هكذا الحال في فلسطين.
يعلمنا السيد المسيح أنه “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان” (متى 4:4). وربما كان إغلاق كنيسة القيامة الإجراء الصحيح لإجبار إسرائيل على وقف التصعيد ضد الكنائس، ومع ذلك فمن الهام جدًا أيضًا التفكير دائمًا بالشعب. فقد حان الوقت للكنائس أن تقول بوضوح إلى أتباعها المؤمنين إن أرض فلسطين المقدسة ليست فقط وجهة رئيسية للحجاج بل أيضًا مكانًا يتم فيه التمسك بقيم السلام والعدل واحترامها. وفي هذا المضمار يصبح انتاج رسائل واضحة وعملية لفضح الظلم الذي يتعرض له الوجود المسيحي يوميًا أمراً واجباً وضرروياً