الأخبار

الأب د. جمال خضر يكتب حول البيان الأخير لرؤساء الكنائس: رؤيا نبوية بامتياز

رام الله – الأب د. جمال خضر

قرأت بيان مجلس رؤساء الكنائس الكاثوليكية في الارض المقدسة بتمعن وفرح. فهو بيان نبوي يذكرنا برسالة انبياء العهد القديم. فالانبياء كانوا تارة يؤنبون الشعب على بعده عن الله وارتكابه الخطايا والشرور، وتارة يعزّون الشعب في اوقات الشدة والصعوبة. وكانوا في كل الاحوال “يدلون على طريق آخر”، طريق الرب وملكوته، ينادون بقيمٍ سامية لا يعرفها هذا العالم ولا يقدرها حق قدرها. وها هم رؤساء الكنيسة الكاثوليكية “يدلون على طريق آخر”، طريق البر والسلام، فهذا ما “يتكلم به الرب الله” (مز 85، 8). مقابل طريق العنف والموت، والتطرف والتفرقة واليأس، يبشرون بطريق الاخوة الانسانية والاحترام المتبادل والمساواة. ترجمة واقعية في بلادنا اليوم لما ينادي به السيد المسيح في تبشيره بالملكوت.

من الناحية السياسية، لا يرسم البيان طريقًا سياسية لكيفية حل المشاكل، فهذا من واجب السياسيين. ولكن الحلول القديمة أصبحت بلا جدوى، فمَن يؤمن بحل الدولتين عليه أن يفتح عينيه على الواقع الجديد على الأرض، فليس من مكان حقيقي لهذه الدولة (إلا إذا أريد لها أن تكون مسخ دولة، على طريقة فرنكنشتاين، وليس دولة حقيقية ذات سيادة). ومَن يقول أن حل الدولة الواحدة لن تقبل به اسرائيل، فكأنه يقول إن اسرائيل ستقبل بحل الدولتين، وهو الحل الذي سعت هذه الدولة لتدميره بشتى الوسائل. وهنا البيان يفتح طريقا جديدة تستحق التأمل والنقاش.

الوضع الحالي يقوم على مبدأين: القوة والخوف. بالقوة استطاعت دولة اسرائيل أن تفرض حقائق على الأرض من مستوطنات وجدار واستيلاء على الأرض. وحاميتها الولايات المتحدة بدأت بشرعنة هذه الحقائق الظالمة لكل حق فلسطيني، من اعتراف بمدينة القدس كعاصمة لإسرائيل، إلى الاعتراف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان السورية المحتلة، وقريبًا على المستوطنات الكبيرة (وربما الصغيرة أيضًا) في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

والخوف، الذي هو واقع في الذاكرة اليهودية لما حدث خلال التاريخ وخاصة المذبحة النازية خلال الحرب العالمية الثانية، هذه الخوف يتم استغلاله وتوظيفه من قِبَل اليمين المتطرف لخلق تمترس غير منطقي أمام عدو (حقيقي أو وهمي) يريد تدمير إسرائيل والقضاء على اليهود. السياسيون يعززون الخوف، فيفقد المواطن قدرته على التفكير المنطقي السليم، فيصوّت لليمين. فيصبح حتى الوجود الفلسطيني، وليس فقط مشروع الدولة الفلسطينية، مهددًا لوجوده. فكيف الخروج من هذه الدائرة المغلقة والجهنمية؟ كيف يمكن أن نطمئن الشعب ونخيف السياسيين؟ هل الدعوة إلى “الاخوة في الإنسانية، وأننا قادرون على أن نحب بعضنا بعضًا، وأن نعيش معًا في احترام متبادل ومساواة في الحقوق والواجبات، في الأرض الواحدة” تخيف الشعب أم السياسيون؟ هذه هي “الرؤية التي ألهمت أجدادنا الانبياء” (من نص البيان). وعندما نتكلم عن الحقوق، هل نتكلم عن الحقوق الشخصية أم الحقوق القومية؟ البيان لا يحدد ذلك، ولكن الدعوة تستحق أن ننظر إليها بعين نبوية وعين واقعية.

الأرض المقدسة صغيرة الحجم، على طرفي الخط الأخضر أفراد من نفس العائلات وأماكن مقدسة للمسيحيين والمسلمين واليهود، والتعلق العاطفي والقومي بكل الأرض حاضر بقوة لدى الجميع. فمن يستطيع أن يقنع مسيحيًا أن الناصرة ليست “أرضنا”؟ أو يهوديًا أن قبر يوسف والحرم الابراهيمي ليست مقدسة؟ أو أي فلسطيني أن يافا إسرائيلية؟ القضايا الاقتصادية والبيئية والثروات المائية وغيرها… واحدة على طرفي حدود 1967. فلماذا لا نعيش “في الأرض الواحدة” معتبرين إياها “أرضنا”، مسلمين ومسيحيين ويهود، فلسطينيين وإسرائليين؟ قد يسميها البعض فلسطين ويسميها الآخرون اسرائيل، فهل التسمية مهمة لهذا الحد؟ وماذا عن التضحيات الفلسطينية من أجل وطن قومي لهم، ولهم كل الحق في ذلك؟ ألا نستطيع ان نفكر “خارج الصندوق” وما اعتدنا على ترديده من عشرات السنين؟ في هذا الإطار الأفكار كثيرة والحلول المقترحة عملية وواقعية، ولكن ما ينقصها هو بالذات ما يدعو إليه رؤساء الكنائس الكاثوليكية: المساواة والسلام المؤسس على الكرامة. وكلمات “السلام والعدل والمحبة” تتكرر في البيان بطريقة نبوية حان الوقت إلى أن تترجم الى واقع سياسي وقانوني.

حل “الدولة الواحدة”، أو “الدولة ثنائية القومية”، أو حل “وطن واحد ودولتين”، حلول تطرح العديد من الأسئلة، ولكن ألا تستحق منا أن نطرحها ونناقشها بجدية وبدون سخرية؟ المبادئ التي يطرحها بيان رؤساء الكنائس الكاثوليكية تعيد القضية إلى قضية إنسانية حقوقية غير خاضعة لمصالح سياسية تحرم شعبًا من حقوقه الأساسية. وتتحدى المجتمع الدولي في صلب ما ينادي به من حقوق مدنية (كالمساواة) تنضم إلى حركة مارتن لوثر كينج ونلسن مانديلا، وتعيد الكرامة لكل إنسان، فلا يمكن القبول أخلاقيًا بحلٍ يتم على حساب إنسان آخر أو مجموعة أخرى: فالكرامة للجميع والإنسانية للجميع، والسلام والعدل والمحبة تصل للجميع، وإلا بقيت منقوصة. فإذا حلّ الظلم في أي مكان، تضررت العدالة في كل مكان (مارتن لوثر كينج).

شكراً لرؤسائنا الروحيين الذين يحيون تقليد الأنبياء في بلادنا، بما يرضي ضميرهم والقيم الروحية، لا السياسيين أو أصحاب المصالح.

Print Friendly, PDF & Email
Shares: