الأخبار

البطريرك بيتسابالا في عشية الميلاد: السلام الذي ننشُده جميعًا، لا يولد وحده

ترأس البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا، مساء أمس السبت، قداس عشية عيد الميلاد، وذلك في كنيسة القديسة كاترينا المحاذية لكنيسة المهد، في مدينة بيت لحم، بمشاركة لفيف من الأساقفة والكهنة، والرهبان والراهبات، وحشد من المؤمنين.

وحضر القداس الاحتفاليّ الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، ومندوب الملك عبدالله الثاني، نائب رئيس الوزراء، وزير الإدارة المحلية توفيق كريشان، ورئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتيه، وشخصيات مدنيّة، وعدد من القناصل وأعضاء السلك الدبلوماسي.

وفيما يلي عظة البطريرك بيتسابالا:

“الشعب السائر في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا والمقيمون في بقعة الظلام، أشرق عليهم النور. كثَّرْت له الأمة وفَّرْتَ لها الفرح” (أشعيا 9: 2-3). ها نحن في بيت لحم مرة أخرى، وفي هذا المكان المقدس، لنرفعَ الشكر والتسبيح إلى الله، ولنحتفلَ بالحدث العجيب، ميلاد مخلّصنا يسوع المسيح. مرّة أخرى يُعلن النبي أشعيا للعالم أن نورًا عظيما ظهر لنا، وفرحًا كبيرًا ملأ قلوبنا. “فقد ظهرت نعمة الله، ينبوع الخلاص لجميع الناس” (طيطس 2: 11)، وهو يسوع المسيح الفادي.

نحن مدعُّوون اليوم، كما في كل عام، إلى أن ننحني أمام السر العظيم، الذي هو بُشرَى خلاص ورحمة. ليس الميلاد فقط زمن أفراح خارجية، ليس فقط عيدًا وأنوارًا وأطفالًا سعداء، وهدايا موزعة على المحتاجين. إنه أولًا الاحتفال بظهور الله في التاريخ. إنه تجلّي التدبير الإلهي تجاه البشرية، وقد بلغ قمته في الميلاد. الميلاد هو نظرة الله، وحُكمُه على العالم، حكمٌ بالخلاص والرحمة، والرأفة، وليس حكمًا بالعقاب.

“الشعب السائر في الظلمة… (أشعيا 9: 1). كانت حياة العالم موسومة بالخطيئة. كان العالم في زمن النبي ممزَّقًا، مقسَّمًا وعنيفًا، بشكل لا يقلّ عن انقسامات عالمنا اليوم. مع ميلاد السيد المسيح، بدأ شيء ما يتغيّر. بميلاد طفل بيت لحم، وُلِدَت أيضًا إمكانات جديدة وعلاقات جديدة بين الناس. لم تحدث تغييرات تاريخية فجائية في حياة ذلك العالم العنيف، هذا صحيح. لكن تدبير الله، ومحبة الله، ورحمة الله، الذي صار جسدًا في الميلاد وظهر لنا في صورة طفل، أخذ ينتشر شيئًا فشيئًا انطلاقا من هذا المكان إلى العالم كله. وأتى بأسلوب جديد للحياة، أساسها كرامة كلّ رجل وكلّ امرأة، والعدل غير المنفصل عن الرحمة، وإرادة الله الخلاصيّة لجميع الناس. منذ ذلك الحين، استمرّ التدبير الإلهي الله يشعّ ويتّسع، حاملًا النور “للجالسين في الظلمة وظلال الموت”.

وها إنّ ذلك الحكم، ونظرة الرحمة والخلاص تلك، تنتظران منَّا جوابًا: هما دعوة موجَّهة إلى كل إنسان ليدخل في هذا الأسلوب الجديد من الحياة، بناء على رغبة الله نفسِه. إنه نداء وتذكير قويّ ومدوّي للعيش في نطاق النور الجديد: “فيه كانت الحياة، والحياة نور الناس” (يوحنا 1: 4-5). فالاحتفال بالميلاد، يتطلب منَّا قرارًا. ويمكن أن نختار بألا نتجاوب مع النداء، وفقا للآية: “جاء إلى أهل بيته، ولم يقبله أهل بيته” (يوحنا 1: 10-11).

منذ ذلك الوقت وحتى الآن ها إنّ تدبير الله ونظرته ورحمته حاضرة في العالم من خلال الكنيسة. لأن المسيحية هي قبل كل شيء أسلوب حياة الذين رحبوا بالدعوة ليكونوا شهودًا  صادقين ومصدَّقين لخطة الله الخلاصية للجميع. كونُنا كنيسة يعني أن نحوِّل تدبير الله وقصده ورحمته إلى واقعٍ فعليّ. وقد جعل الميلاد ذلك أمرًا ممكنًا وملموسًا. الجماعة المسيحية مدعُوّة إلى أن تجعل قلب الله الرحيم حيًّا حاضرًا في عالمنا، وأن تنظر إلى الإنسانية بعيون يضيئها النور الإلهي. وبفضل هذا النور، نحن نرى أحداث العالم رؤية أوضح، إذا ما تطلعنا إليها بالقلب، وليس فقط بأعين الجسد.

ماذا نرى اليوم في هذا العالم؟ ماذا ترى كنيسة القدس، كنيستنا؟ ماذا يحمل نور الله لذهننا وقلبنا، هنا، في الأرض المقدسة؟

نرى بأم أعيننا أن العنف أصبح اللغة الرئيسية، وطريقتنا في التواصل. العنف يزداد ولاسيما في لغة السياسة. لقد عبَّرْنا من قبل عن قلقنا بسبب الاتجاه الذي تسير إليه السياسة في إسرائيل والذي يوشك أن يطيحَ بالتوازن الضعيف القائم بين مختلف الجماعات الدينية والإثنية، التي يتكوّن منها مجتمعنا. من واجب السياسة أن تخدم البلد وجميع سكانه وأن تعمل من أجل الانسجام بين مختلف الجماعات الاجتماعية والدينية في البلاد، وأن تعبِّر عن ذلك بأعمال ملموسة وإيجابية، وليس بإثارة الانقسامات، وما هو أسوا من ذلك، بإثارة الكراهية والتفرقة العنصرية.

في هذه السنة، رأينا ازدياد العنف في الشوارع وفي الساحات الفلسطينية، وسقوط حصيلةٍ من الضحايا تُعيدنا عشرات السنين إلى الوراء. هذه علامة مقلقة لزيادة التوتر السياسي، وللقلق المتزايد لدى شبابنا بسبب استمرار الصراع الحالي، الذي يزداد تعقيدا وبعدا عن الحلّ. والقضية الفلسطينية تبدو أنها لم تعد موضع اهتمام العالم. وهذا الإهمال هو أيضًا نوع من العنف، يجرح ضمائر الملايين من الفلسطينيين، الذين تزداد عزلتهم بين الشعوب، وهم ينتظرون منذ أجيال وأجيال تلبية طلبهم المشروع في الكرامة والحرية.

علاوة على ذلك، ليس العنف فقط في السياسة. إنما نراه في العلاقات الاجتماعية، وفي وسائل الإعلام، وفي عالم الرياضة، وفي المدرسة، وفي العائلة، وأحيانا في جماعاتنا. كل هذا ينبع من نقصٍ متزايد في الثقة صار علامة فارقة لمجتمعنا. لا نثق بتغيير ممكن، ولا نثق بعضنا ببعض. وهكذا يصبح العنف لغتنا الوحيدة. وانعدام الثقة المتبادلة هو أصل كل صراع، هنا في الأرض المقدسة، وفي أوكرانيا، وفي أنحاء كثيرة في العالم.

في مثل هذه الأماكن الممزّقة والمجروحة، أول وأهم رسالة لكنيستنا هي مساعدة البشر كي ينظروا إلى العالم بالقلب، والتذكير أن الحياة لها معنى فقط عندما تنفتح على الحب. يعني الاحتفال بالميلاد لنا، نحن الجماعات المؤمنة بالمسيح، أن نخلق ونعزّز فرص الرحمة والرأفة والمغفرة، وأن نكون أدواتٍ لها. يعني أن نحمل إلى واقعنا الجريح تدبير الله المليء بالرأفة، هو الذي ظهر لنا بميلاد يسوع المسيح. يعني أن نتحلَّى بالشجاعة للقيام بمبادرات تبني الثقة. وبالفعل، إن الإيمان بالله يعزّز ثقتنا بالإنسان، وعليه يتأسَّس رجاؤنا، ويجب أن نحوّله إلى محبة مجانيّة وصادقة.

السلام الذي ننشُده جميعًا، لا يولد وحده. إنه ينتظر رجالًا ونساء يعرفون كيف ينخرطون في حياة العالم، وكيف يوقظون، من خلال أعمال محبة مجانية، إرادة الخير التي تسكن قلب كل إنسان، هذا القلب الذي لا ينتظر إلا التحرّر من شباك الأنانية. قال مخلصنا يسوع المسيح الذي ولد في بيت لحم: طوبي لصانعي السلام. وهو نفسه قدّم حياته على الصليب، وبحبّه انتصر على الموت، وعلَّمنا أن الحب ينتصر على الموت.

ليس الأمر مستحيلًا. إنّ شهادة رجال ونساء عديدين، هنا، في الأرض المقدسة، وفي أنحاء كثيرة في العالم، تفيدنا بأن هذا الأسلوب في الحياة، وهذه الطريقة في الاحتفال بعيد الميلاد هي ممكنة اليوم بالرغم من كل شيء. أمنيتي هي أن يوقظ الطفل يسوع فينا أيضًا، مرة جديدة، إرادة الخير لدى كلّ الناس، وأن يقوِّي ثقتنا بكل إنسان، وأن يؤيّد عملنا في سبيل السلام، والرحمة والعدل، في الأرض المقدسة وفي العالم.

عيد ميلاد سعيد. وكل عام وأنتم بخير.

Shares: