مسيحيون تحت الإحتلال

هم ليسوا ارقاما، هم بشرا كباقي شعوب العالم، لكل منهم قصة وعائلة وحلم

لم يعد الحال على ما هو لابناء قطاع غزة من المسيحيين الذين لجأوا الى كنيسة القديس برفيريوس هروبا من الصواريخ الاسرائيلية التي استهدفت منازلهم وافسدت عليهم احلامهم بحياة هادئة ومطمئنة.
كغيرهم من سكان قطاع غزة المكلوم ترك ٣٨٢ فلسطينيا مسيحيا منازلهم بحثا عن ملاذ امن وكانت وجهتهم كنيسة القديس برفيريوس الاثرية والتي تعتبر اقدم ثالث كنيسة في العالم، ولجأ ما يقارب ٥٠٠ شخص آخرين الى كنيسة اللاتين في الحي ذاته حي الزيتون، ظناً منهم انهم في مأمن من اجرام الاحتلال الاسرائيلي، ففي وعي كل منهم ان القانون الدولي الذي لطالما آمن به الفلسطيني يفيد بحصانة الكنائس من اي اعتداء عسكري في وقت الحروب وهو ما لم يحدث في قطاع غزة كما لم يحدث اثناء حصار كنيسة المهد قبل سنوات ليست بعيدة.
الا ان العائلات المسيحية توزعت بين كافة مرافق الكنيسة المختلفة من مرافق ضمت مدارس الاحد والقاعات الملاصقة للكنيسة او مقر مجلس الوكلاء وهو المكان الذي دُمر على من فيه، عند نحو الساعة الثامنة والنصف من ليلة الخميس الموافق ١٩.١٠.٢٠٢٣، استهدف جيش الاحتلال الاسرائيلي مقر مجلس الوكلاء واحد المنازل المهجورة المجاورة والملاصقة للكنيسة، ما ادى الى انهيار كامل في مداخل الكنيسة والمقر على رؤوس النازحين والمحتمين فيه، حيث راح ضحية هذا العدوان ١٧ شهيدا والعديد من الاصابات، هؤلاء ليسوا ارقاماً، لكل منهم قصة وحكاية، لكل منهم حلم وترتيب مستقبلي له ولعائلته، عائلات بأكملها مسحت اسمائها من السجلات المدنية، اطفال وجدوا تحت الانقاض اشلاء، وطفلة لم يتجاوز عمرها ال٤ اشهر وجدت شهيدة في احضان جدتها التي استشهدت ايضا.
وفي سردية اللحظة المهمة والأصعب تمثلت بعد احتواء صدمة القصف الاسرائيلي هو البحث عن الجثث والناجين تحت ركام المبنى في ظلام الليل الحالك بسبب انقطاع الكهرباء المتعمد من قبل الاحتلال الاسرائيلي عن كل قطاع غزة، فما كان من السكان ورجال الدين الاباء الكهنة مسؤولي الدير والكنيسة الا ان يبحثوا عن اشلاء الضحايا على اضواء الهواتف النقالة، فقد علت اصواتهم تنادي على من ظنوا انهم ما زالو احياء تحت الركام، فهذا ينادي ” يا سليمان” وجدة تنادي ” تاتا ازا سامعتني ردي علي”، وام مكلومة تبكي وتصرخ باسم ابنتها التي لم تتجاوز ال ٤ شهور.
في ذات الوقت كانت العائلات الفلسطينية المسيحية الغزية والتي انتقلت الى مدن الضفة الغربية هروبا من الحروب السابقة، تعيش رعبا مع تناقل العديد من الاسماء عبر شبكات التواصل الاجتماعي ، كل واحد منهم يريد ان يطمئن عن والديه اخوته واصدقائه، والعديد منهم لم يتمكن من ان يلقي نظرة الوداع الاخيرة على من احبهم بسبب الحصار الجائر والقسمة الجغرافية بين الضفة الغربية والقطاع، هنا شقيقة تترك قبلة على جبين شقيقتها التي رحلت مع طفلتها، وهناك العديد من الاصابات الحرجة والخطيرة، احداها لفتاة كانت تأمل ما قبل الحرب ان تبدأ الترتيبات لحفل زفافها الذي تبخر املها الان في اتمامه .
فقد رامز الصوري اطفاله الثلاث وودعهم بكلمات تدمي القلب ” بنتي كانت زي القمر بتجنن قتلوها”، كما فقد رامز ابناء عمومته وزوجاتهم من عائلة العمش، عبد النور وعائلته والذي انهى منذ فترة قصيرة دراسة الماجستير وكتبت زوجته الشهيدة ” اتمنى لك دوام النجاح وعقبال شهادة الدكتوراه”، وطارق وعائلته، ونقل صبحي والذي فقد زوجته وطفليه الى المشفى بسبب اصابة في قدميه ونتيجة للنقص في الموارد الطبية وعدم توفر العلاج المناسب يتوقع الاطباء ان هناك حاجة لقطع احدى قدميه، كما فقدت عائلة الطرزي احدى المربيات الفاضلات ايلين، وفجعت ميرال وعطالله على فقدان طفلتهم سما وهي في عمر ال ٤ شهور كما فقدت ميرال والدها ووالدتها في هذا القصف، اخر من تم العثور عليه وفي صباح اليوم التالي طبيب الاسنان سليمان طرزي ولم تتمكن زوجته من وداعه بسبب اصابة بالغة الخطورة في عامودها الفقري، ولم يتسنى لاطفاله وداعه بسبب حالة الذعر التي حلت بهم وحرمتهم من حياة مستقرة وسط عائلة تحبهم وترعاهم، ومازال هناك العديد من الاصابات في المستشفيات بعضها في حالة خطيرة.

لم يقتصر القصف على استهداف النازحين الذي اجبرتهم إسرائيل على ترك منازلهم، بل اخطرت الكنيسة لاكثر من ثلاث مرات لاخلائها، واجلاء الناجين نحو الجنوب، كما دمرت كافة المخازن التي خزنت بها الكنيسة المياه والاغذية والحبوب والمعلبات، كي لا تبقي اي من عوامل الصمود التي حاولت الكنيسة توفيرها قدر الامكان، لتجبر إسرائيل النازحين على الرحيل، وكأن اسرائيل تقصد عمداً بعد قصفها للمستشفى المعمداني وبقصفها هذا المبنى التابع لكنيسة القديس برفيرويوس تفريغ اخر من بقي من المسيحيين الفلسطينيين داخل غزة الحبيبة.

لا يوجد مكان امن في غزة، كافة الاماكن في غزة هدف للاحتلال الاسرائيلي وطائراته، فالكنيسة التي فتحت ابوابها لحماية النازحين مسلمين ومسيحين وقدمت لهم الخدمات ورفضت اجلائهم وعبرت عن اصرارها على حماية السكان عبر بيان البطريركية في القدس، استهدفتها إسرائيل ولم تكترث لأرواح الابرياء، لتثبت للعالم الصامت ان إسرائيل وقادتها فوق القوانين الدولية الذي لم يجرأ على محاكمتها ومحاسبتها وتجريمها حتى الان بالرغم من استمرار الكارثة الإنسانية وحرب الإبادة التي تقوم بها إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني بأكمله.

Print Friendly, PDF & Email
Shares: