في 17 أيار 2015، أعلن البابا فرنسيس القديسة ماري ألفونسين غطاس قدّيسة للكنيسة الجامعة، لتكون أول قديسة فلسطينية من أرض المسيح. وقد سبق ذلك إعلان طوباويتها في 22 تشرين الثاني 2009 من قبل البابا بندكتوس السادس عشر، بعدما أثبتت الكنيسة أنها عاشت الفضائل المسيحية البطولية: المحبة، الإيمان، والرجاء. ونُسبت إليها أعجوبة شفاء مهندس من بلدة كفركنا الفلسطينية المحتلة، كان قد دخل في غيبوبة تامة إثر إصابة كهربائية، فاستعاد وعيه بشفاعتها في يوم إعلان تطويبها.
زهرة الوردية من أرض القداسة، وُلدت القديسة ماري ألفونسين، واسمها الأصلي سلطانة دانيال غطاس، في مدينة القدس بتاريخ 4 تشرين الأول 1843، وسط أسرة مؤمنة اتسمت بتقوى القلب وسخاء العطاء. كانت الأسرة مكوّنة من ثلاث أخوات وخمسة إخوة، نذرت الأخوات حياتهن للرهبانية، فيما كُرّس شقيقها أنطون للكهنوت. نشأت سلطانة في بيئة مقدسية بسيطة، كغيرها من فتيات القدس في تلك الحقبة، لكن العناية الإلهية هيّأت لها ظروفًا تعليمية متميزة. فمع وصول راهبات القديس يوسف من فرنسا إلى القدس عام 1848، بناءً على طلب من حارس الأراضي المقدسة ورغبة بطريرك القدس اللاتيني فاليرغا في تنشئة الجيل الجديد على أسس مسيحية متينة، التحقت بالمدرسة التي أسستها الراهبات هناك. أظهرت منذ صغرها اتزانًا خُلقيًا وجدية في التحصيل العلمي، حتى غدت شابة ناضجة، متقدة بالإيمان والحكمة.
حين أفصحت سلطانة لوالديها عن رغبتها في تكريس حياتها لله من خلال الدخول إلى رهبانية القديس يوسف، قوبلت برفض قاطع. لكنها لم تيأس، بل لجأت إلى الصلاة والتوسل إلى العذراء مريم، طالبةً شفاعتها في تبديل موقف والديها. وقد استُجيبت صلواتها، فوافق والدها على طلبها. دخلت سلطانة دير الابتداء، وهو المرحلة التمهيدية في الحياة الرهبانية، حيث تتلقى المرشحة الإعداد الروحي والنسكي. وفي عام 1860، قبيل بلوغها سن السابعة عشرة، لبست الثوب الرهباني واتخذت اسمًا رهبانيًا جديدًا، هو الأخت ماري ألفونسين، بحسب العرف الكنسي في تغيير الاسم. وبعد فترة من التكوين الروحي والاختبار، نذرت النذور الرهبانية الثلاثة: الفقر، والعفة، والطاعة، أمام البطريرك فاليرغا، على جبل الجلجلة. وعلّقت على صدرها صليبًا، متمثلة بقول الرب: «إن أراد أحد أن يتبعني، فليحمل صليبه كل يوم ويتبعني»، ولم تفارق هذا الشعار حتى آخر لحظات حياتها.
بعد نذورها، أُوكل إليها التعليم الديني في مدارس القدس، نظرًا لإتقانها اللغة العربية وقربها من الناس. أظهرت حماسة فائقة في التعليم والتنشئة الإيمانية، وأطلقت العديد من المبادرات التربوية، أبرزها تأسيسها لأخويتين هما: أخوية الحبل بلا دنس للفتيات، وأخوية الأمهات المسيحيات. لاقت هاتان الأخويتان نجاحًا كبيرًا، ولا تزالان قائمتين إلى اليوم، ثم امتد نشاطها إلى بيت لحم، حيث أسست أخويات مماثلة على النهج ذاته.
الظهورات المريمية وتأسيس رهبانية الوردية
بارك الرب الأم ألفونسين بنِعَم خاصة، من أبرزها سلسلة من الظهورات السماوية التي حظيت بها من السيدة مريم العذراء، وكانت بمثابة إعلان إلهي لرسالتها الجديدة:
• الظهور الأول: في عيد الغطاس، 6 كانون الثاني 1874، تجلّت السيدة العذراء في نور بهيّ، باسطة يديها، تتدلّى منهما سبحة وردية تنتهي بصليب، وعلى هامتها تاج مرصع بخمس عشرة نجمة، وتحت قدميها سبعة كواكب لامعة. كانت الأخت ألفونسين تتأمل أسرار الوردية حينها، وأدركت أن العذراء تدعوها لرسالة أعظم.
• الظهور الثاني: في 1 أيار من العام نفسه، وبينما كانت تسير نحو مغارة الحليب، سمعت صوتًا يردد: “السلام عليك يا مريم”. رفعت عينيها، فرأت العذراء ثلاث مرات خلال مسيرتها، مؤكدة على حضورها ومرافقتها الدائمة.
• الظهور الثالث: في عيد الغطاس عام 1875، عاودت العذراء الظهور وسط نور مجيد، تحيط بها مجموعة من الفتيات بثياب شبيهة بثيابها. ورأت حروفًا منيرة كتبت في السماء: “بتولات الوردية. رهبانية الوردية”، وأحسّت في قلبها صوتًا يقول: “أريد أن تبدأي رهبانية الوردية”.
• الظهور الرابع: تمثّل في رؤيا نبوية واضحة، حيث رأت العذراء تحيط بها فتيات يرتدين ثيابًا من نور. أمسكت العذراء بيدها وقالت بحزم: “أما فهمت بعد؟ أريدك أن تؤسسي رهبانية الوردية”. فأجابت الأخت ألفونسين بتواضع: “إني مستعدة لكل تعب تقتضيه الرهبانية”. فقالت العذراء: “اتكلي على رحمتي، ولا تخافي، فأنا أعينك”، ثم علّقت في عنقها السبحة الوردية كعربون عهد ورسالة.
بدأت الأخت ألفونسين مساعيها لتنفيذ هذه الدعوة الإلهية، فاستعانت بمرشدها الروحي. وقد شعرت بالذهول عندما علمت أن عددًا من فتيات الأخويات كنّ يصلين ويقمن بأعمال تقشف من أجل تحقيق هذا الهدف. وفي أحد ظهوراتها، عرّفتها العذراء على المرشد المختار: الأب يوسف طنّوس، الذي رأته في رؤيا وعلى رأسه إكليل من النجوم، وقد أكّد الصوت الداخلي: “هو المرشد الذي اختارته السماء”. وفي تلك الفترة، كانت مجموعة من فتيات القدس قد طلبن من الأب طنّوس تأسيس جمعية رهبانية عربية تُعنى بتنشئة المرأة المسيحية. كان الأب يوسف لا يزال في حيرة من أمره، إلى أن زارته الأخت ألفونسين حاملة رسالة العذراء وتفاصيل الرؤيا. فاطمأن إلى صدق دعوتها، وأمرها بتدوين كل ما سمعته ورأته.
وفي عام 1883، تأسست رهبانية الوردية المقدسة في القدس، بمشاركة ثماني فتيات، تحت إشراف الأب يوسف طنّوس وبرؤية الأم ألفونسين. ونمت الرهبانية بسرعة، وازداد عدد المنتسبات إليها. وفي عام 1897، نالت الموافقة الكنسية على قوانينها، ثم رُفعت عام 1959 إلى رتبة رهبانية حبريّة تتبع مباشرة للكرسي الرسولي.
تنقّلت الأم ماري ألفونسين في عدة مناطق، منها الناصرة، والسلط، وعين كارم، حيث ختمت مسيرتها الروحية، وانتقلت إلى بيت الآب في 25 آذار 1927، يوم عيد البشارة.