قديماً قيل: “الإنسان ابن بيئته”، والبيئة الفلسطينية منذ اوائل القرن الماضي وحتى أيامنا هذه ما تزال بيئة للحرب والنزاعات القومية والصدامات الدينية، بالإضافة إلى كونها بيئة للمصالح المحلية والإقليمية والدولية. وبناء على ذلك فمن البطولة بمكان أن يبقى المسيحيون الفلسطينيون مسالمون ومتسامحون ومتعايشون مع كافة الفئات الإجتماعية، إن كان في فلسطين الطبيعية أو حتى في اسرائيل نفسها.
وهذا يدل على أن للمسيحي الفلسطيني صفات وميزات خارقة، لأنه ليس من السهل أن تحافظ على كل هذه الصفات وسط هذه العواصف السياسية والدينية التي ما تزال تضرب المنطقة منذ أجيال وأجيال. ومع أنني لست بخبير في الانتربولوجيا لكن بالإمكان الملاحظة أن المسيحيين الفلسطينيين يتحدرون من مزيج مؤلف من قبائل مسيحية عربية معروف عنها الإعتدال منذ الآلاف السنين ومسيحيين محليين تنصروا في أوائل عهد المسيحية (على الأغلب كانوا يهودا او من رعايا الامبراطورية الرومانية بمن فبهم بعض العرب) ومسيحيين جاءوا مع حملات الفرنجة وقروا البقاء في فلسطين بعد انتهاء حروب الفرنجة.
والقاسم المشترك في هذا المزيح ان جميع افراده يميلون إلى الإعتدال في المجالات الدينية والسياسية والإجتماعية، بحيث أنهم صاروا نموذجا يحتذى به في العالم العربي. وبسبب هذا الاعتدال اللامتناهي قال العرب ان لا طائفية في فلسطين. وطبعا هذا لا ينتقص من تسامح الأغلبية المسلمة غير أنه يكفي ان يصرخ عشرة مسيحيين ان هناك طائفية في فلسطين ليبدأ تدخل الدول الكبرى والصغرى في الشؤون الداخلية الفلسطينية، وهذا لم ولن يحدث للاسباب التي ذكرناها.
كان تعداد المسيحيين الفسطينيين في مطلع القرن الماضي ما يقرب من 35 في المائة من مجموع سكان فلسطين، علما ان أكثر من سبعين في المائة منهم كانوا من ابناء الطبقة الوسطى. ومن المتعارف عليه أن اي ثورة او نضال لا يمكن ان ينجحا اذا لم تشارك فيهما الطبقة الوسطى. وبالإمكان القول ان المسيحيين الفلسطينيين كانوا يشكلون أغلبية مريحة من الطبقة الوسطى الفلسطينية.
وعندما بدأت المناوشات بين العرب واليهود بدأ ابناء الطبقة الوسطى المسيحية في الانضمام للثوار، لكن كان هناك بين القيادات الفلسطينية من وجد أن من الأفضل اعطاء النضال الفلسطيني صبغة دينية لكسب دعم وتاييد الدول العربية والإسلامية. وكان هذا خطأ استراتيجي ارتكبته القيادات الفلسطينية في ذلك الوقت لأنه أدى إلى حساسيات دينية ونجم عن ذلك انسحاب تدريجي للطبقة الوسطى (مسلمين ومسيحيين) من ارض المعركة (وليس من ساحة النضال السياسي والاعلامي)، وذلك لأن المثقف والمتنور بطبيعته لا يحارب في معارك دينية بل قومية.
ولكن كانت هناك معركة أخرى يواجهها المسيحييون الفلسطينيون وتتعلق بالوصاية الاجنبية على الاماكن المقدسة المسيحية وعلى الطوائف المسيحية بسبب إتفاقيات دولية تحت ذرائع حماية الأقليات. ويبدو أن بعض الأنظمة والنخب العربية والاسلامية كانت وما تزال تدعم الوصاية الاجنبية على الاماكن المسيحية في فلسطين لأن في ذلك مصلحة مادية وسياسية لها. وهكذا وجد المسيحيون الفلسطينيون انفسهم في وضع لا يحسدون عليه من ناحية اجنبية ومحلية على حد سواء.
لقد كان وما زال العائق الأكبر امام استقلالية المسيحيين الفلسطينيين هو اعتقادهم الخاطىء أن وجودهم مرهون فقط بالأماكن المقدسة، والتي هي طبعا تحت الوصاية الأجنبية، بإستثناء تعريب البطريركية اللاتينينة، وهو الأمر الذي حدث بعد نضال اكليريكي طويل وتطور كبير في ثقافة الكنيسة الكاثوليكية نفسها. إن الأماكن المقدسة هي موضوع حماية دولية ووفقا لاتفاقيات بين الدول الكبرى ما تزال سارية المفعول والقول ان الاكليروس الاجنبي هو حاميها هو قول لا اساس له من الصحة اطلاقا.
في الدول الغربية، وخاصة في امريكا واستراليا، فإن هناك فرق واضح بين الكنيسة والرعية، وخاصة الكنيسة الكاثوليكية. فالكنيسة لها عقاراتها ومؤسساتها لكن للعلمانيين الكاثوليك والمسيحيين لهم مؤسساساتهم وعقاراتهم أيضا. لا احد يستطيع ان يمنع مسيحيي فلسطين من أن يبنوا مؤسساتهم مع المحافظة على العلاقة الروحية المتينة مع كنائسهم. وليس هناك كنيسة واحدة في العالم تستطيع ان تحرم مجموعة ما اذا ارادت بناء ناديا أو مؤسسة خيرية أو تعليمية لخدمة ابناء طائفتها. ولا يمكن منع العلمانيين من المشاركة في صنع القرارات التي تؤثر على مستقبلهم ومستقبل اولادهم.
لقد أثبتت التجارب والتاريخ نفسه أن البناء الذاتي هو افضل الطرق للتطور والنمو. المسيحيون الفلسطينيون الآن أمام خيارين: إما بدء مشوار الألف ميل بالخطوة الأولى أو استمرار نزيف الهجرة الذي سوف يلحق المزيد من الاضرار بالشعب الفلسطيني كله وليس بالمسيحيين وحدهم!
نشر بتاريخ: 16/10/2013