ربما اصبح من الممل القول أن مايجري في العراق هو نتيجة للجريمة بل وللخطيئة الكبرى التي ارتكبتها الأدارتين الأمريكية والبريطانية وكل من تعاون معهما في عام 2003. وأن من تم تنصيبهم لحكم العراق منذ ذلك التاريخ لم يكونوا بأفضل من من جلبهم ومكنهم من حكم العراق. وكنتيجة طبيعية لذلك أن تتدهور الأمور في العراق بحيث أنها وصلت فيه الى الحد الذي اصبح العراق كبلد والعراقيين كشعب مهددين بالزوال والتفكك.
أن ما جرى ويجري لأحبتنا وأخوتنا مسيحيوا العراق، وخاصة مسيحيوا الموصل امر يدمي القلب ويدمع العين ويضع مرارة ألم في الفم عند الحديث عن هذه الكارثة. أن تخييرهم بين اشهار أسلامهم او دفع الجزية او الهجرة تاركين ورائهم كل ما يملكون أمر لا يمكن أن يصدقه العقل او أن يصدق ان ذلك يحصل في القرن الواحد والعشرين. لقد ترك هؤلاء المساكين والذين لا حول لهم ولاقوة والذين كانوا كغيرهم من أبناء العراق المساكين معتمدين على دولتهم لحمايتهم، تركوا منازلهم بملابسهم الشخصية وأن مسلحي داعش أصحاب مشروع (تحرير العراق وابناءه) قاموا بسلب ممتلكاتهم، في حين أن أخبار اخرى أكدت أن بعض أهالي الموصل الكرام وجيران الذين هجروا قاموا بشغل منازلهم بسرعة بألأتفاق مع أصحابها المهجرين كي لايتم سلبها ونهبها من التنظيمات الطارئة على الموصل بل والعراق ككل.
وربما من المفيد التذكير أن مأجرى بالنسبة لمسيحي الموصل لم يكن بالشيء الجديد، فالمسيحيين العراقيين، مثلهم مثل الفلسطينين الذي عاشوا في العراق منذ 1948 بل وكا من كان يعيش في العراق قبل 2003، كلهم قد تعرضوا منذ بداية الأحتلال الى الكثير من الأضطهاد والأتهام بأنهم كانوا من مؤيدي النظام السابق. وكان نصيب المسيحيين وافرا في هذا المجال، فلقد جرى الأعتداء عليهم وعلى مناطق تواجدهم وعلى مراكزهم الدينية في أكثر من مرة على هذا الأساس. وجريمتهم الوحيدة أنهم كأشخاص لم يتم امتهان شخصيتهم وأنهم ورموزهم الدينية واماكن عباداتهم عوملت بأحترام.
لقد عشنا مع أخوتنا المسيحيين في العراق عقودا طويلة لم نلمس منهم إلا الطيبة والشعور بحب الوطن والتفاني في خدمة المجتمع العراقي. لابل أنا وغيري من أبناء جيلي والأجيال الأخرى كنا ولا نزال نفخر بأننا تعلمنا مباديء القراءة والكتابة على أيادي مربين افاضل من مسيحي العراق والدول العربية الأخرى. فانا وبعض أخوتي وأخواتي درسنا في مدرسة أبتدائية تملكها عائلة مسيحية كريمة قدمت من لبنان لخدمة اطفال العراق (مدرسة عادل الأهلية). وأني أعترف أن ما تعلمته في هذه المدرسة والأساس التعليمي الذي غرزنه فيّ هو ما مكنني أن أصل الى ما وصلت اليه، لا بل وأستطيع أن أؤكد وبدون الأساءة الى أحد بأن ما أستفدته من هذه المدرسة ومن المدرسات المسيحيات والمدرسة اليهودية الوحيدة آنذاك، فاق ما تلقيته في المدارس الحكومية التي انتقلت لها بعد المرحلة الأبتدائية. وكانت هذه المدرسة تحرص على تدريسنا القران الكريم والتربية الدينية بنفس الجدية التي تدرسنا فيها العلوم الأخرى. ولم يكن أحد منهم يدفع الجزية بل كان يتقاضى راتبا شهريا يتناسب وما يقدمه من خدمة للأجيال المختلفة. وكنا نحن الطلاب عربا واكرادا وتركمانا، مسلمين ومسيحين ويهود وصابئة ويزيدين مختلطين مع بعضنا البعض من دون ان نعرف هذه الفوارق التي بدأت تظهر فيما بعد كنتيجة للتخلف الذي بدأت الأحزاب والجماعات الدينية المتطرفة تزرعه في مجتمعنا والمجتمعات المجاورة. ولم تكن هذه هي المرسة الوحيدة التي تديرها عائلة مسيحية، بل كان هناك مدارس أخرى مثل مدرسة الحكمة ومدرسة دار السلام وغيرها. كما لا يمكن الحديث عن هذا الموضوع دون ذكر أعدادية الراهبات التي خرجت هي وثانوية بغداد للبنات افضل الأجيال من فتيات العراق، وكلها كانت بإدارات مسيحية. كما أن العراقيين جميعا يتذكرون الدور الذي لعبه القساوسة المسيحيين في تعليم وتخريج أجيال عديدة من ابنائهم الذين أنتسبوا الى مدرسة (كلية بغداد) وقسم من خريجي هذه المدرسة هم اطراف نافذين في العملية السياسية التي افرزها الأحتلال.
أن أكثر ما يحزن في الأمر أن هذه الجريمة تمت بأسم الأسلام وبأسم إنشاء دولة أسلامية، وأن المرجعيات الدينية بل وكل الدولة العراقية مرت وتمر على هذه الكارثة مرور الكرام مكتفية بتصريحات لرفع العتب، وأن الساسة العراقيين، وأجهزة الأعلام الرسمية والموالية لها، منشغلين بالصراع على السلطة والمصالح الشخصية وادامة التوتر الطائفي والعرقي في البلاد للوصول الى أهدافهم الضيقة وللتستر على فسادهم وما اوصلوا البلد اليه. أما موقف المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، المسؤلتان عن كل ما جرى ويجري، فانه موقف لايمكن أن يقال عنه سوى أنه مخجل ويفضح أكذوبة أحتلال العراق من أجل تحويله الى بلد ديمقراطي مرفه تحترم فيه حقوق الأنسان. وهنا أريد أن أتساءل لو أن الجيش السوري او حركة حماس او حزب الله ارتكبوا مثل هذا الفعل المشين وهجروا عوائل مسيحية من مناطق تحت نفوذهم ماذا كان سيكون رد الفعل الأمريكي اوالأوربي على ذلك، لقامت الدنيا ولم تقعد، ولأنعقد مجلس الأمن لكي يدين هذا العمل ولتشكلت التحالفات والتهديدات بعمل عسكري كعقوبة عليه. أما ما حدث لمسيحيي الموصل فلقد مر وكانه حدث عابر لا أهمية له.
ليس بيد البقية الباقية من العراقيين الوطنيين والمحبين للعراق الذي عرفوه علمانيا ومتسامحا وجامعا لكل الطوائف والمذاهب أي شيء تفعله، وستبقى عاجزة طالما سكتت الغالبية عن هذا التمدد الطائفي والمتخلف، وطالما ظل الأعتقاد بأن الخلاص هو على يد الأحزاب والشخصيات الطائفية والمتسترة بأسم الدين. وستبقى هذه البقية الباقية لا تملك سوى الأعتذار، أعتذارا لايمكن أن يداوي جرحا أو ان يقضي على ألم وصل حتى النخاع.