الأخبار

الحقيقة حول محكمة الجنايات الدولية وغزة

بموجب قوانين محكمة لاهاي، يستطيع مكتبي التحقيق في جرائم الحرب المزعومة في فلسطين فقط إذا منحتنا فلسطين صلاحية العمل في أراضيها. لكنها لم تفعل ذلك.

هل تفادت محكمة الجنايات الدولية فتح تحقيق في جرائم الحرب المزعومة في غزة بسبب ضغط سياسي، كما أشير في مقال نشر في صحيفة “الغارديان” مؤخراً؟ الجواب “لا” قاطعة. وبصفتي المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، أرفض بأقوى العبارات أي طرح من هذا القبيل.

عندما يبحر مراقب موضوعي بعيداً عن التوتر الذي يشوب هذا الموضوع، فإنه يجد أن الحقيقة البسيطة تقول إن مكتبي لم يكن أبداً في وضع يتيح له فتح مثل هذا التحقيق بسبب الافتقار إلى الاختصاص. لقد بينا دائماً، بوضوح وعلناً، المسوغات التي تجعل الأمور على هذا النحو.

غني عن البيان أن القانون الأساسي لروما، المعاهدة المؤسسة لمحكمة الجنايات الدولية، مفتوح أمام المشاركة من جانب الدول. ويستطيع المدعي العام للمحكمة التحقيق والبت في الجرائم المرتكبة على الأرض أو من جانب مواطني الدول التي انضمت إلى القانون الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية، أو التي قبلت، غير ذلك، باختصاص محكمة الجنايات الدولية عبر إعلان مؤقت لتلك الغاية استناداً إلى المادتين 12-3 من القانون الأساسي.

هذا يعني أن الجرائم المزعومة المرتكبة في فلسطين هي وراء الوصول القانوني لمحكمة الجنايات الدولية، بالرغم من الطرح الذي يقدمه بعض العلماء القانونيين، والذي يقول إن القوانين الاختصاصية الأساسية يمكن أن تكون خاضعة لتأويل ليبرالي أو اختياري لقانون روما الأساسي. ويبدو أنهم ينافحون عن ذلك وكأن موضوع وغاية محكمة الجنايات الدولية هي إنهاء الحصانة الخاصة بالجرائم الجماعية، والتي توجب على المحكمة التدخل حتى حين لا يتم الوفاء بالمعايير الاختصاصية الواضحة للمحكمة. وليس هذا اقتراحاً قانونياً جيداً ولا يمهد لإجراء قضائي مسؤول.

لقد سعت السلطة الفلسطينية إلى القبول باختصاص محكمة الجنايات الدولية في العام 2009. وقد درس مكتبي بعناية كل الحجج القانونية التي طرحت ليستنتج في نيسان من العام 2012، وبعد ثلاثة أعوام من التحليل التام والاستشارات العامة، بأن الوضع القانوني لفلسطين لدى الأمم المتحدة كـ”كيان مراقب” كان حاسماً -نظراً لأن الدخول في نظام قانون روما الأساسي يكون من خلال الأمين العام للأمم المتحدة الذي يكون الجهة التي تودَع لديها المعاهدة. وقد عنى وضع فلسطين لدى الأمم المتحدة في ذلك الوقت أنها لم تستطع التوقيع على قانون روما الأساسي. واستنتج مدعي محكمة الجنايات الدولية السابق بأنه نظراً لأن فلسطين لم تستطع الانضمام إلى القانون الأساسي، فإنها لا تستطيع أيضاً أن تتقدم بشكوى بموجب المادتين 3- 12، لتجلب نفسها تحت مظلة المعاهدة، كما كانت قد سعت.

في تشرين الثاني من العام 2012، تم رفع مكانة فلسطين لدى الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى مكانة “دولة مراقب غير عضو” من خلال تبني القرار 67/19. وقد تفحص مكتبي التبعات القانونية لهذا التطور، واستنتجنا أنه بينما لم يفعّل هذا التغير وبأثر رجعي إعلان 2009 السابق غير المفعّل، فإن فلسطين تستطيع الآن الانضمام إلى قانون روما الأساسي.

ولأن فلسطين وقعت على معاهدات دولية مختلفة منذ حصولها على وضع “دولة مراقب”، فإن ذلك يؤكد صحة هذا الموقف. وعلى الرغم من ذلك، وحتى هذا التاريخ، فإن القانون ليس واحداً من المعاهدات التي قررت فلسطين الانضمام إليها، كما أنها لم تقدم إعلاناً جديداً في أعقاب قرار الجمعية العامة في تشرين الثاني من العام 2012. ومن المعروف على المستوى العام أن القادة الفلسطينيين بصدد التشاور داخلياً حول ما إذا كانوا سيفعلون ذلك، والقرار هو قرارهم وحدهم. ولا أستطيع أنا، كمدع عام لمحكمة الجنايات الدولية أن أقوم بالعمل نيابة عنهم.

بموجب طبيعة تفويض المحكمة، فإن كل حالة يتصرف فيها المدعي في محكمة الجنايات الدولية ستكون محفوفة سياسياً. وإن تفويضي كمدعٍ واضح بالرغم من ذلك: التحقيق والبت في الجرائم استناداً إلى الحقائق والتطبيق المحكم للقانون باستقلال تام وعدم تحيز.

أما إذا اختارت دول أو مجلس الأمن الدولي إسناد الاختصاص إلى محكمة الجنايات الدولية، فهو قرار يعتمد كلية على المحكمة. ومتى ما اتخذ هذا القرار مع ذلك، فإن القواعد القانونية التي تسري تكون واضحة وباتة وليست سياسية تحت أي ظروف. وقد جعلت ذلك واضحاً في الممارسة والكلمات، وفي عبارات أكيدة، بأن مكتب المدعي العام للمحكمة سينفذ التفويض من دون خوف أو تحيز، وحيثما يكون الاختصاص قد تأسس، فإنه سيتعقب بقوة -بغض النظر عن الوضع أو التبعية- أولئك الذين يرتكبون جرائم جماعية تهز ضمير الإنسانية. وستكون مقاربة مكتبي لفلسطين غير مختلفة إذا ما طرق أمر اختصاص المحكمة بخصوص الحالة.

إن اعتقادي الراسخ هو أن اللجوء إلى العدالة لا يجب أن يكون موضوعاً للمساومة والمقايضة بالنفعية السياسية. وإن الفشل في الوفاء بهذا المتطلب المقدس لن يسيء إلى قضية العدالة ويضعف الثقة العامة بها فقط، وإنما سيفاقم من معاناة ضحايا الأعمال العدائية الجماعية. وهو ما لن نسمح بأن يحدث أبداً.

Shares: