مع الاعتزاز بالروائي السوداني الراحل الصديق الطيب صالح وعنوان روايته الشهيرة “موسم الهجرة إلى الشمال”، فإن حال المسيحيين العرب اليوم، وخصوصاً في كل من العراق وسوريا وإلى حدود معيّنة في لبنان ومصر يزداد سوءًا، الأمر الذي دفع أعداداً واسعة منهم إلى الهجرة الاضطرارية أو الإجبارية، الجماعية والفردية، وهم الذين ظلّوا يتشبثون بأوطانهم وعروبتهم ولغتهم. أما مسيحيو فلسطين فمعاناتهم مختلفة، خصوصاً وقد تعرّضوا إلى الإجلاء القسري، لاسيّما بمصادرة وطنهم وهضم كامل حقوقهم الإنسانية.
وقد ساهمت موجة التطرّف والتعصّب والتكفير التي ضربت المنطقة في إجلاء وتهجير المسيحيين، متمثلة بوجهيها إعلان ” إسرائيل” دولة يهودية نقية وتصاعد عدوانيتها، بالترافق مع إعلان قيام الدولة ” الإسلامية” في كل من العراق وسوريا “داعش”.
وبما أن الدولة في “إسرائيل” ستكون دينية يهودية، فلا مكان للمسيحيين وبالطبع للمسلمين وغيرهم فيها، لأنها تقوم على قاعدتين أصوليتين الأولى إن فلسطين أرض “الوعد الإلهي”، والثانية إنهم “شعب الله المختار”، وهو ما دأبت “إسرائيل” على العمل وفقاً له منذ قيامها في العام 1948، وخصوصاً إزاء المسيحيين، بهدف تفريغ فلسطين منهم، ولاسيّما من القدس بالدرجة الأولى.
ومن جهة أخرى فإن قيام دولة “إسلامية” نقية، سيعني طرد أتباع الديانات الأخرى، وهو ما باشرت به “داعش”، خصوصاً إزاء المسيحيين والإيزيديين وغيرهم، وكذلك أتباع المذاهب الأخرى حتى وإنْ كانت إسلامية أو إن أصحابها مصنّفون ضمن الدائرة الإسلامية، لأن الأمر حسب داعش وعقيدتها هو تكفير الجميع، بل وحتى استئصالهم إنْ لم يعلنوا الولاء والبيعة لها والامتثال لأوامرها.
وبهدف معرفة ردود الأفعال إزاء الظاهرة الإقصائية والإلغائية، فلا بدّ من التوقّف عند عاملين، الأول: هو السياسات الصهيونية العنصرية والغربية الإستعلائية إزاء عرب فلسطين والحقوق العربية عموماً، مسلمين ومسيحيين ودروز وغيرهم، التي بسببها تبرّر بعض الاتجاهات الإسلاموية المتعصّبة والمتطرفة سلوك هذا السبيل، سواء كانت تحت مسمّيات تنظيم القاعدة أو ربيبته داعش أو جبهة النصرة وأخواتها أو غيرها من الجماعات الإرهابية، إذْ هل ينبغي مجابهة الجريمة، بالجريمة والإثم بالإثم، والرذيلة بالرذيلة؟ فجريمتان لا تولدان عدالة، وإثمان لا ينتجان براءة، ورذيلتان لا تنجبان فضيلة.
والثاني هو التسابق مع النقيض، ليس لنقضه، بل لموازاته في تطرّفه وتعصّبه وممارساته العنصرية الاستعلائية، ولعلّ ذلك ما قامت وتقوم به داعش في منافسة “إسرائيل” وبعض حاخاماتها المتطرفين، في الانغلاق، وإدعاء الحق، وإقصاء الآخرين، وهكذا تقف الأصولية اليهودية المتعصّبة، مقابل الأصولية الإسلاموية المتطرفة، ولاسيّما في الموقف من المسيحيين، بل من الآخر بشكل عام.
وإذا كانت رواية الطيب صالح التي أثارت عند صدورها في ايلول/سبتمر العام 1966 موجة مختلفة من القراءات المتعدّدة للعلاقة بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب من خلال علاقة إنسانية حميمية، فإن موجة تهجير المسيحيين أو دفعهم إلى مغادرة أوطانهم نحو الشمال، تثير على نحو شديد، العلاقة بين دول الشمال الغني ودول الجنوب الفقير، والعلاقة بين الدول المتقدّمة والدول النامية أو المتأخّرة، والعلاقة بين احترام حقوق الإنسان وانتهاكها، وكذلك إلتباس الموقف من المجاميع الثقافية، دينياً وإثنياً، وهو ما اصطلح عليه مجازاً بـ “الأقليات”، وهو ما سبق وأن أبدينا تحفّظات عليه، خصوصاً وأن المصطلح بحد ذاته يستشف منه الانتقاص من مبدأ المساواة في الحقوق.
لم يعد خافياً أن موقف الغرب يميل إلى استثمار ما يتعرّض له المسيحيون في المنطقة عبر محاولاته ” للتدخل” وإملاء الشروط والحصول على مواقع النفوذ، فتلك ليست مواساة ” إنسانية” أو تضامناً يستحقه المسيحيون، بل إنه محاولة لتوظيف تلك المأساة لأهدافه الخاصة، وقد سبق له أن تدخّل لاعتبارات ومبرّرات ومصالح مختلفة، ولاسيّما بعد ضعف الدولة العثمانية التي سميّت “بالرجل المريض”، واتّخذت تدخلاته طابعاً آخر إزاء المنطقة العربية منذ اتفاقية سايكس- بيكو الاستعمارية التي جرى فيها اقتسام البلاد العربية منذ العام 1916 وحتى اليوم، وهو ما كان يتناغم إلى حدود معينة مع قواعد القانون الدولي التقليدي التي تضع مصالح ” الدولة القومية” فوق الاعتبارات الأخرى، بل تجيز لها ” الحق في شنّ الحرب” إذا شعرت بأن تهديداً ما أو خطراً وشيك الوقوع يمكن أن يلحق بمصالحها، وهي الإشكاليات التي يحاول استثمارها تحت عناوين جديدة مثل الحرب الوقائية ضد الإرهاب أو الحرب الإستباقية أو غير ذلك.
وبالطبع فإن مسألة التدخل تلك لم تضع في حسابها ما يطرح اليوم بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان أو التدخّل لأغراض إنسانية، لأن هذه الأخيرة لم تكن قد وضِعتْ على بساط البحث على النحو الذي جرى في النصف الثاني من القرن العشرين، ولاسيّما عند تأسيس الأمم المتحدة وبشكل خاص عشية وبُعيد انتهاء عهد الحرب الباردة في أواخر الثمانينيات، على الرغم من إن تطبيقاتها اتّسمت بالكثير من ازدواجية المعايير والتوظيف السياسي والانتقائية المصلحية الأنانية.
ومن الجهة الأخرى فإن الإرهابيين والمتطرّفين من قوى الإسلام السياسي، لا يتورّعون اليوم من التعبير عن آرائهم في الانتقاص من المسيحية العربية- الشرقية، بل إنهم غير معنيين بالتغطية على أفعالهم، تلك التي تتعارض على نحو سافر مع مبادئ المساواة وحقوق المواطنة المتكافئة، وخصوصاً عندما يوغلون في نهج الإقصاء والإلغاء للآخر الغريب المريب عن شريعتهم الإسلاموية حسب مزاعمهم .
لقد أثارت حملة استهداف المسيحيين أوساط عالمية واسعة بسبب المعاناة التي يعيشها مسيحيو العالم العربي بشكل خاص والمشارقة بشكل عام، ولاسيّما أوضاعهم القاسية واللاإنسانية، والتي أقلّ ما يقال عنها أنها تتّسم بالتمييز وعدم المساواة، ناهيكم عمّا لحق بهم من عسف وتهجير، الأمر الذي يتطلّب حماية المسيحيين، سواء في العراق أو سوريا أو لبنان أو مصر، أو غيرها من البلدان العربية، ناهيكم عن تمسّك مسيحيي فلسطين بحق العودة والقرار 194 الصادر عن الأمم المتحدة العام 1948، والقاضي بعودة الفلسطينيين إلى ديارهم وتعويضهم عمّا لحق بهم من غبن وأضرار.
ويكتسب الدفاع عن الوجود المسيحي العربي اليوم أهمية خاصة في هذا الوقت بالذات حيث شهدت المنطقة عدداً من التغييرات الجيوبوليتيكية والديموغرافية التي حصلت في دول الإقليم، وهو ما تجسّد مؤخراً بهجوم داعش واحتلالها الموصل وتدهور أوضاع المسيحيين وتعرّضهم إلى عمليات قتل وتفجير وتهجير، وكان هذا الوضع قد ازداد في أعقاب احتلال العراق في العام 2003، وتضاعف إلى حدود مريعة خلال فترة ما بعد الربيع العربي، التي شهدت فوضى عارمة وانفلاتاً أمنياً وضعف وانهيار هيبة الدولة وصعوداً للتيارات الإسلاموية.
وإلى حين سيطرة داعش على نحو ثلث الأراضي العراقية والسورية كان المشهد محلياً أو إقليمياً، لكنه تحوّل ليصبح عالمياً، خصوصاً وإن الخطر تجاوز الحدود، يضاف إليه إن مسألة تهجير المسيحيين أثارت الرأي العام الغربي لحساسيتها، الأمر الذي يحتاج من جانب المسلمين الحريصين على المشترك الإنساني إلى بذل المزيد من الجهد لتسليط الضوء على المعاناة الفائقة للمسيحيين العرب كشريحة أساسية ومهمة من شرائح المجتمعات العربية، خصوصاً وأن عشرات الآلاف منهم ومئات الآلاف من المدنيين في المحافظات التي هاجمتها داعش اضطرّت إلى النزوح، الأمر الذي أثار انتباه الرأي العام العالمي مجدداً إلى الكارثة التي حلّت بهم، يضاف إلى ذلك سوء أوضاعهم في سوريا واستمرار الحرب الأهلية المستعرة منذ العام 2011، وعدم وجود أمل قريب بوضع حدّ لها واستعادة الأوضاع الطبيعية، ناهيكم عن تأثيراتها على الوضع الإقليمي بشكل عام، الأمر الذي عاظم من معاناة المسيحيين، الذين أُعتبروا هدفاً سهلاً، وقد أدّى ذلك إلى تشجيع وتشجّع بعض المسيحيين على الهجرة، خصوصاً عدم توفير حماية لهم ووضع حدٍّ لتدهور أوضاعهم.
لقد تردّدت بعض الأوساط المسيحية وهي على حق من تأييد موجة الربيع العربي لشعورها بأنه سيكون “خريفاً” بالنسبة لها، حيث تعرّضت لهجمة بربرية استهدفت مقدّسات المسيحيين وكنائسهم وأديرتهم ووجودهم، وهو الأمر الذي اقترن بالعنف والإرهاب والتفجير والقتل. ولعلّ ذلك يطرح سؤالاً في غاية الأهمية وهو كيف ينظر المسيحيون إلى مستقبلهم؟ وهل ينبغي مواجهة الإسلام السياسي بمسيحية سياسية؟ كما تطرح بعض الأوساط وماذا نفعت مثل هذه المواجهة في لبنان مثلاً، ألم يتم تشطير البلاد بين الأديان والطوائف؟
الأمر بحاجة إلى حوار جاد ومسؤول وإجراءات فعّالة بخصوص المخاطر التي تهدّد الوجود المسيحي في المنطقة، لاسيّما من جانب النخب الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية والدينية بهدف ردّ الاعتبار للمواطنة فعلاً وليس قولاً، وإعادة لحمة العلاقات المسيحية – الإسلامية وبين أتباع الأديان والطوائف على أساس المساواة التامة وعدم التمييز تحت أي مبرر أو ذريعة.
ويحتاج الأمر أيضاً إلى تشريعات وقوانين، وأدوات لإنفاذها وعدم خرقها أو انتهاكها تحت أية مبررات أو مزاعم، كما يستوجب الأمر إعادة النظر بالمناهج التربوية والتعليمية وتنقيتها عن كل ما ينتقص من الآخر ديناً أو قومية أو جماعة بشرية سلالية أو لغوية، والعمل على مواءمتها مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والسعي لإشاعة ثقافة التسامح والسلام والإقرار بالتنوّع والتعددية، وهنا لا بدّ من الاستفادة من الجوانب الإيجابية في تراثنا، كما يقتضي الأمر مشاركة المجتمع المدني والإعلام بشكل خاص في القيام بدورها الإيجابي، بما يعزّز سبل العيش المشترك والتفاعل الإنساني والتواصل الحضاري.