شهد الشرق الأوسط موجات هجرة بين بلدانه، ومنها إلى الدول الغربية، أوروبا وأميركا الشمالية، منذ بداية العقد الماضي، وخاصة في أعقاب غزو العراق، عام 2003. وتلا ذلك، في أعقاب زلزال ‘الربيع العربي’ الذي ضرب دولا عربية، منذ مطلع العام 2011، هجرات من سورية وليبيا خصوصا، إضافة إلى تدفق مهاجرين من دول أفريقية، بينها السودان. وسبق ذلك هجرة لبنانية واسعة، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. وتتميز جميع هذه الهجرات بأنها ناجمة عن نشوب حروب أهلية أو غزو خارجي.
لكن هذه البلدان العربية شهدت على مدار عقود مضت، قبل بدء العقد الحالي، نوعا من الاستقرار، على الرغم من أنظمة الاستبداد والطغيان التي حكمتها. والمنطقة الوحيدة، تقريبا، التي لم تشهد استقرارا سياسيا أو أمنيا، هي فلسطين، وتحديدا الأراضي المحتلة عام 1967. وتثبت المعطيات في السطور التالية، أن هناك هجرة فلسطينية نشطة من الضفة الغربية والقدس بشكل خاص، وأن هناك عوامل تشجع هذه الهجرة، ولا توفرها إسرائيل وحدها وإنما تشارك دول أخرى في ذلك.
عندما ندخل قرية فلسطينية في منطقة رام الله، مثل قرية دير دبوان، نرى بيوتا هي أشبه بقصور، وليست مجرد فيلات، لكنها تكون غالبا إما غير مسكونة أو يسكنها مسن أو مسنة، لأن أبناءها، الذين بنوا هذه البيوت هاجروا إلى الخارج، وخاصة إلى الولايات المتحدة.
ويقول أحمد، من قرية ريمون، في محافظة رام الله أيضا، إنه تخرج من المدرسة الثانوية في بداية العقد الحالي، وإن عدد الخريجين في فَوْجه بلغ 44 تلميذا. ‘يوجد في ريمون الآن 4 من أبناء صفّي، وهاجر الأربعون الآخرون إلى الولايات (المتحدة). ونحن الأربعة الباقون نتحدث دائما مع زملائنا في الولايات، ويقولون لنا ’تعالوا إلى الولايات، يوجد عمل ومال وحرية والحياة رائعة هنا’. نحن هنا نعيش حياة تعيسة. عندما أذهب إلى رام الله أواجه عدة حواجز عسكرية إسرائيلية. لا يوجد عمل، وإن وُجد فالراتب ضئيل جدا. ولم نعد نقيم حفلات زفاف في ريمون. لمن نقيمها؟ للمسنين؟ لا يوجد في ريمون شباب يحيون حفلات الزفاف ويرفعون العريس على أكتافهم. معظم الشباب هاجروا‘.
وأشار أحمد إلى أنه ‘يوجد في رام الله مكتب سفر يرتب إصدار تصريح لعدة ساعات للشباب كي يذهبوا إلى القنصلية الأميركية في القدس… من أجل إجراء المقابلة والحصول على الفيزا (تأشيرة دخول). ويحصلون على الفيزا بسهولة. والغريب أن مدتها ثلاث سنوات. هل توجد فيزا للسياحة لثلاث سنوات؟’. يبدو أن الولايات المتحدة تساهم في هجرة الفلسطينيين.
وهناك هجرة فلسطينية نشطة من القدس إلى الولايات المتحدة وأميركا الجنوبية. وهناك عدد كبير الذين هاجروا إلى فنزويلا خصوصا. كذلك يهاجر الكثير من شبان بيت لحم ومنطقتها إلى أميركا الجنوبية. وفي أشهر الصيف، خلال العطلة الصيفية، تكون اللغتين الانجليزية والاسبانية منتشرتين في شوارع القدس وبيت لحم.
هناك مئات آلاف الفلسطينيين، وتشير تقارير إلى 400 ألف على الأقل، الذين هاجروا من الضفة الغربية، خلال العقود الأخيرة. ورغم أن الحرب ليست السبب المباشرة لهجرتهم، إلا أن أسباب هذه الهجرة نابعة من الأوضاع السائدة في الضفة. ويتبين أن السبب الرئيسي الذي يدفع الغالبية العظمى من الفلسطينيين إلى الهجرة هو الاحتلال الإسرائيلي، ما يؤكد على وجود عملية تهجير صامتة. وإسرائيل تعي هذه الظاهرة تماما، وهناك دراسات تناولتها صدرت باللغة العبرية، علما أنه يصعب أن تجد دراسة واحدة بالعربية.
ورغم عدم وجود معطيات حول ظاهرة هجرة الفلسطينيين من قطاع غزة، الذي يخضع منذ عشر سنوات لحصار إسرائيلي مشدد، إلا أن الرغبة بالهجرة لدى الفلسطينيين في قطاع غزة مضاعفة.
ووفقا لآخر استطلاع أجراه ‘المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية’ في حزيران الماضي، فإن 45% من سكان القطاع يرغبون بالهجرة، بينما بلغت هذه النسبة في الضفة 22%. واللافت من استطلاعات سابقة أجراها المركز أن هذه النسب ترتفع في حالات التوتر الأمني الشديد، مثل الحروب الإسرائيلية ضد القطاع أو عمليات عسكرية إسرائيلية واسعة في الضفة.
وحول الأسباب التي تدفع الفلسطينيين على الهجرة، قال 40% إن السبب الرئيسي هو ‘قلة فرص العمل في الوطن’، بينما قال 23% إن السبب الثاني هو ‘قسوة الحياة تحت الاحتلال’، وقال 12% إن سبب ثالث هو ‘قلة الأمن’، وأشار 9% إلى أن سبب رابع هو ‘غياب الحريات والحياة الديمقراطية‘.
إسرائيل و’المسألة الديمغرافية‘
الشباب، بشكل طبيعي، هم الذين يفكرون بالهجرة وهم الذين يهاجرون. ومن شأن هذه الحقيقة أن تدفع المسؤولين والنخب الفلسطينية إلى التفكير في مواجهة هذه الظاهرة، ليس بسبب خطورتها وفقدان موارد بشرية هامة فقط، وإنما لأن الإسرائيليين يتعاطون مع ظاهرة هجرة الفلسطينيين من نواحي سياسية وأمنية وإستراتيجية أيضا.
يدرك الإسرائيليون أن الفلسطينيين لن يتبخروا، كما يتمنى بعضهم، وأنهم باقون في وطنهم. لكن يدور في إسرائيل نقاش حول ‘المسألة الديمغرافية’. وهم يولون هذه المسالة أهمية كبيرة للغاية. ويتمحور النقاش في إسرائيل حول ‘المسألة الديمغرافية’ حول عدد الفلسطينيين وعدد اليهود بين النهر والبحر. بعض خبراء الديمغرافية الإسرائيليين، وأبرزهم البروفيسور سيرجيو دي لا فيرغولا من الجامعة العبرية، يرى أن اليهود يشكلون نسبة تزيد بقليل عن 50% في كل فلسطين التاريخية، ويستنتجون من ذلك أنه يجب الانفصال عن الفلسطينيين من خلال الانسحاب من الضفة الغربية (ويعتبرون أن إسرائيل انسحبت من القطاع منذ العام 2005)، وضمان أغلبية يهودية داخل ‘الخط الأخضر’. وبعض هؤلاء يرون أن هذه المعطيات تبرر حل الدولتين.
من الجهة الأخرى، هناك خبراء ديمغرافية من اليمين، بينهم طاقم برئاسة يورام إتينغر، الذين يعتبرون أن نسبة اليهود أعلى بكثير مما يُعلن عنه، وأنهم يشكلون أغلبية واضحة في فلسطين التاريخية. ويستخدمون هجرة الفلسطينيين لإثبات ادعائهم، إضافة إلى الادعاء بأن الإحصائيات الفلسطينية تضخم عدد الفلسطينيين في الضفة الغربية خصوصا.
وهذه المجموعة الثانية، التي تنتمي إلى اليمين المهيمن في إسرائيل، تتوصل من خلال ادعاءاتها هذه إلى الاستنتاج بأنه بالإمكان ضم الضفة لإسرائيل. ويرى قسم من هذه المجموعة، وبينهم الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين، أنه بالإمكان ضم الضفة لإسرائيل ومنح الفلسطينيين أو جزءا منهم حقوق مواطنة. واعتبرت الصحافية في ‘جيروزاليم بوست’، كارولين غيليك، في كتابها ‘ضمٌ الآن’ الصادر في العام الماضي، أن الوضع الديمغرافي بين النهر والبحر مريح لليهود، وأن ضم الضفة لن يهدد الصبغة اليهودية لإسرائيل، خاصة وأنه يقابل هجرة الفلسطينيين هجرة يهودية معاكسة، إلى إسرائيل، تجعل ميزان الهجرة إيجابيا، بمعنى أن عدد المهاجرين إلى إسرائيل أعلى من عدد المهاجرين منها.
وإلى جانب كل ما تقدم، فإن المهاجرين من إسرائيل، وغالبيتهم يهاجرون إلى الولايات المتحدة، يفعلون ذلك من أجل العمل وكسب المال، ويصرحون بأنهم سيعودون في المستقبل، وتوفر الدولة لهم بعودتهم امتيازات كثيرة. وفي المقابل، ورغم أن فلسطينيين كثيرين في المهجر يصرحون بأنهم سيعودون إلى وطنهم، إلا أن إسرائيل، كدولة احتلال، تضع عقبات أمام تحقيق ذلك ومنع عودة المهاجرين الفلسطينيين بشكل مباشر أو غير مباشر.