عندما انطلقت المسيحية، كانت الدولة الرومانية هي العدو الاكبر لهذا الدين الجديد. فمنذ البداية كان الوالي الروماني هو من اصدر الحكم بالصلب على السيد المسيح. وعندما انتشرت المسيحية، تعرضت للاضطهاد على يد الامبراطورية الرومانية. هنالك اسباب تاريخية عديدة لهذا الاضطهاد، الا ان السعي الى وحدة الامبراطورية بتوحيد الديانة تم رفضه من قِبَل المسيحيين، فكيف يمكن لهم ان يقدموا الذبائح لالهة وثنية، خاصة اذا كانت هذه الالهة بشر او اباطرة اعلنوا انفسهم الهة؟ هذا الرفض ادى الى اضطهاد المسيحيين وقتلهم في الساحات العامة وفي المدرجات المخصصة للالعاب الدموية.
في عام 313، رفع الامبراطور قسطنطين الحظر عن الديانة المسيحية بمرسوم ميلانو الشهير، فتمتعت الكنيسة بهدوء نسبي، على الرغم من عودة اضطهاد المسيحيين على يد الامبراطور يوليانوس بين عامي 361 – 363. وفي عام 298، اصبحت الديانة المسيحية الديانة الرسمية للامبراطورية الرومانية الشرقية. ومع الامبراطور قسطنطين، بدأ عهد جديد في العلاقة بين الكنيسة والدولة. فالمسيحية هي الديانة الرسمية، والامبراطور هو المدافع عن مصالح الكنيسة، فهو الذي يدعو لعقد مجامع مسكونية للبت في الخلافات اللاهوتية، وهو الذي يضمن تطبيق قرارات المجامع، ولو تطلب منه ذلك استعمال القوة. فوحدة الامبراطورية تدور حول وحدة الدين، ولا تحتمل التعددية الدينية، كما ان انقسام الكنيسة يعدّ خطرا على وحدة الامبراطورية. وبالمقابل، فان الكنيسة تدعم الامبراطور وتصلي من اجله. في هذه الفترة ظهرت اول نظريات مسيحية حول مفهوم “الحرب العادلة”. هذا المفهوم الذي لا تزال الكنيسة متمسكة به الى الان – راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية الصادر عام 1992، رقم: 2309.
وفي القرون الوسطى، من كان يتحكم بمن؟ الدولة تتحكم بالكنيسة وتسيرها كما تريد وتتدخل في شؤونها؟ ام الكنيسة التي تعين الملوك والاباطرة، معتبرة ان لها سلطان يفوق السلطة الزمنية للملوك؟ الواقع كان متغيرا والتاريخ معقد، لكن العلاقة كانت جدلية: فاذا كان البابا صاحب شخصية قوية كان يفرض ما يريد في الشؤون السياسية، حتى ان بعض البابوات اقاموا دولة بابوية يحكمونها بشكل مباشر. واستمر ذلك حتى عام 1870 في ايطاليا. ولكن الملوك استطاعوا في احوال كثيرة التدخل في شؤون الكنيسة واختيار البابوات انفسهم، بالاضافة للاساقفة ايضا.
مع عصر التنوير في اوروبا، وظهور الدول القومية، قامت حركات تطالب بعزل الكنيسة عن كل سلطة او تدخل في الشأن العام. وهذا ما حدث بعد الثورة الفرنسية مثلا، وتأسيس مبادئ الجمهورية الثالثة عام 1906، بفرض العلمانية على النمط الفرنسي، اي خصخصة الدين وعزله في الشأن الخاص داخل الكنيسة وبعيدا عن المجال العام. رأى البعض داخل الكنيسة ذلك هزيمة للكنيسة ولدورها، ورأى البعض الاخر تحرر للكنيسة من عبئ الشؤون السياسية، وبداية جديدة للكنيسة في علاقاتها مع العالم الذي نعيش فيه. وكان المجمع الفاتيكاني الثاني نقطة انطلاق في بناء علاقة سوية مع عالم السياسة وانفتاحا على حاجات العالم التي تتناسب مع رسالة الكنيسة: “إن آمالَ البشرِ وأفراحَهم، في زمننا هذا، إنَّ أحزانَهم وضيقاتهم، لا سيما الفقراء منهم والمعذَّبين جميعاً، لهي أفراحُ تلاميذِ المسيح وآمالُهم، هي أحزانُهم وضيقاتهم. وهل من شيءٍ إنسانيٍّ حق إلا وله صداهُ في قلوبهم” (فرح ورجاء، رقم 1).
حدث هذا التطور في اوروبا، ولكن فهم الكنيسة لذاتها تأثر بهذا التاريخ وبهذه التجربة. ويعد العرض السابق لعلاقة الكنيسة مع الدولة مختصرا الى حد الاختزال، فلم نتحدث عن اصلاحات البابا غريغوريوس السابع في القرن الحادي عشر ودوافعه، كما لم نتحدث عن الحروب الصليبية ودور الكنيسة فيها في فهمها لذاتها ومسؤولياتها في ذلك الزمن. ان أي سعي لفهم افضل للتاريخ يجب ان يصاحبه عدم الحكم على التاريخ بعقلية اليوم او بمقاييس الزمن الذي نعيش فيه، والا تمت الاساءة للتاريخ نفسه.
واليوم، ما هي علاقة الكنيسة بالدولة؟ وكيف يجب ان تكون؟ تتنوع الاجابة بحسب الدول وخبراتها، وخاصة ان طبيعة العلاقة بين الكنيسة والدولة في الشرق تختلف عن مثيلتها في الغرب. اما اذا اردنا ان نجيب على هذا السؤال استنادا على رسالة الكنيسة، فان التصاق الكنيسة بالدولة تركز على كون الكنيسة مؤسسة اكثر منها رسالة. وانفصالها عن الدولة يمهد الطريق لحرية الرسالة النبوية في الكنيسة. كان الانبياء يتمتعون بحرية انتقاد الملوك والحكام لعدم اتباعهم شريعة الله وعدم اتكالهم عليه، من خلال ثقتهم الزائدة بقوتهم العسكرية او بجبروتهم. وقد دفع الانبياء ثمنا باهظا احيانا لجرأتهم في انتقاد الحكام. وللكنيسة رسالة نبوية، هي رسالة يسوع المسيح الذي اعلن ان الله مسحه “لِأُبَشِّرَ الفُقَراء وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين وأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرَّبّ” (لوقا 4، 18 – 19).
اذا فهمت الكنيسة ذاتها على انها “مؤسسة”، فمن الطبيعي ان تسعى لحماية مصالحها وحقوقها وامتيازاتها. واذا جعلت من رسالتها في الدفاع عن الفقراء والمظلومين اولوية في حياتها وفي بشارتها، فلا بد من تباينها عن الدولة لتستطيع ان تحمل هذه الرسالة، وتوجه رسالتها النقدية الى اصحاب السلطة والقوة، لا ان تكون منهم.
اذا كان عالم اليوم هو عالم الاقوياء والاغنياء الذين لا يتورعون عن التضحية بالفقراء والضعاف، وجب على الكنيسة ان تكون ضمير لهذا المجتمع، وان تكون قلب عالم لا قلب له.
اما عن موضوع مفهوم “الحرب العادلة” واستبداله بلاهوت “السلام العادل”، فلنا فيه حديث اخر.