إن سلسلة التجارب التي مرّ بها النضال الفلسطيني على طريق التحرر، كانت بمثابة الملهم الدافع لي أن أتطرق لموضوع يجمع ما بين مبادئ التنمية البشرية والدور الريادي لتاريخ الفلسطينيين المسيحيين في بناء وتشكيل فلسطين واقعا، وطنا، ثورة، حضارة ومستقبل. الانتفاضة، العصيان المدني وتجارب ومواقف عديدة ومتميزة، تشعل فتيل التساؤل، كيف استلهمت مدن وقرى صغيرة بإبداع تجارب كبيرة في استخدام أساليب النضال السلمي ضد الاحتلال الإسرائيلي؟ وكيف استطاعت أن تضيف نكهة فلسطينية خاصة للمقاومة بسواعد وعقول فلسطينية انخرطت وما زالت في العمل التنموي و المجتمعي، تحت مظلة علاقات مسيحية إسلامية يرتقي فيها مفهوم “العيش المشترك”؟!
بدافع تسليط الضوء على الوجود الفلسطيني المسيحي في فلسطين وماهيّة عطائه وانخراطه في العمل التنموي، هدفت الدراسة التي قمت بها في برنامج ماجستير التعاون والتنمية الدولية في جامعة بيت لحم إلى التعريف بمبادئ ومفاهيم التنمية البشرية وعلى دور مسيحيي فلسطين في تطبيق هذه المفاهيم ورفع مستوى التنمية البشرية في فلسطين.
ومن أجل ذلك كان لا بد من طرح مجموعة من الأسئلة: من هو الفلسطيني المسيحي؟ ما هي مفاهيم التنمية البشرية؟ ما هو لاهوت التحرير الفلسطيني؟ وكيف يمكن أن تكون هذه المفاهيم مجتمعة في إطار واحد؟
الفلسطيني المسيحي، هو فلسطيني بالدرجة الأولى، هو جزء ديناميكي وفاعل في المجتمع، متأصل بإيمانه المسيحي والتزامه الوطني، متمسك بهويته الفلسطينية المسيحية مهما اشتدت قسوة الاحتلال، وهذه حقيقة متفق عليها يتطرق لها البحث بهدف تسليط الضوء عليها وربطها بمفهوم التنمية البشرية وليس بهدف سرد تفاصيلها.
يظهر التسلسل التاريخي الزمني لمسيحيي فلسطين، أن الفلسطيني المسيحي من بعد النكبة 1948، مرورا بحرب 1976 والنكسة، الانتفاضة الأولى والثانية وإلى وقتنا هذا، هو جزء لا يتجزأ من النضال الفلسطيني على جميع الأصعدة. فقد شارك الفلسطينيون المسيحيون كل ما تعرض له الفلسطينيين من لجوء، طرد، اعتقالات، مصادرات وتنكيل من قبل الاحتلال الإسرائيلي. وقد ظهرت عبر التاريخ أسماء لقادة فلسطينيين مسيحيين اعتبروا من أبرز الشخصيات الوطنية الفلسطينية كجورج حبش، نايف حواتمة، كمال ناصر، حنان عشراوي وغيرهم الكثير من الشخصيات التي تركت بصمة في تاريخ فلسطين، ولمعت أيضًا شخصيات فلسطينية لاهوتية منهم على سبيل الذكر لا الحصر الأب إبراهيم عياد، غبطة البطريرك ميشيل صباح، الأب د. جمال خضر، المطران عطاالله حنا، القس نعيم عتيق، والقس متري الراهب.
وبالرغم من ذلك، تبقى جملة “الفلسطينيون المسيحيون ملح الأرض” جملة تتردد أو بالأحرى قضية تطفو على السطح الاجتماعي الفلسطيني بين الفينة والأخرى. هذه الجملة وان كانت تؤكد في مضمونها على قدم وتجذّر الوجود الفلسطيني المسيحي في فلسطين الذي كان ولا يزال مصدرا للخصب والعطاء، إلا أنها تلوح بمفهوم “الأقلية”، وهو مفهوم مرفوض من قبل كل فلسطيني مسيحي. الفلسطينيون المسيحيون ليسوا أقليات في وطنهم بل هم جزء لا يتجزأ من النسيج الوطني والاجتماعي.
فبالرغم من ممارسات الاحتلال القاسية التي دفعت أعداد كبيرة من الفلسطينيين المسيحيين إلى الهجرة، إلا أن هناك عدد كبير من الفلسطينيين المسيحيين الذين التزموا ببذل جهود حثيثة من أجل تحقيق العدالة والديمقراطية.فمن اجل الحفاظ على جذورهم الفلسطينية المسيحية، برع الفلسطينيون المسيحيون في العمل المؤسساتي. من خلال الانخراط الملتزم في العمل المؤسساتي، كالمؤسسات الإنسانية، مؤسسات حقوق الإنسان والمؤسسات الإعلامية، استطاع مسيحيو فلسطين تأكيد إسهامهم الملموس في ارتقاء وإثراء حياة الفرد الفلسطيني.وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على تشبث مسيحيي فلسطين بأرضهم وتمسكهم بهويتهم والتزامهم بالدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني ومشاركتهم الفاعلة في إيجاد حلول لمعاناة هذا الشعب.
وقد تجلّت هذه المشاركة الفاعلة أيضًا من خلال الكنائس، فقد أظهرت الكنائس في فلسطين وبدعم من الكرسي الرسولي، بشكل واضح دعمها المستمر للقضية الفلسطينية وتعزيز الوجود الفلسطيني. هذا الدعم المتجذّر أصلاً والواضح في تفسيرات الكتاب المقدس، والمستمر في آمال وأحلام ونضال الفلسطينيين بالإضافة إلى مساهمتها في فتح مجالات وآفاق جديدة سعيا لتحقيق العدالة والعيش الكريم. والجدير بالذكر أنه ومن خلال اهتمامها بالعدالة الاجتماعية، شاركت الكنائس في قضايا تعالج مشاكل المجتمع المحلي الفلسطيني كالفقر، الاقتصاد المتردي، دور الدولة، وسيادة القانون. في ذلك كله، أظهرت الكنيسة قلقها واهتمامها لحياة الإنسان الفلسطيني حيث أن نوعية الحياة الاجتماعية تعتمد وبصورة حاسمة وأساسية على حماية وتعزيز فكرة “الوجود الإنساني”.
مجدّدًا، هذا الوجود الراسخ للدين المسيحي في فلسطين، مهد الديانات السماوية الثلاث يشعل الفضول ويجبرنا على التساؤل: هل لهذا الوجود تأثير على التنمية البشرية في المجتمع الفلسطيني؟ كيف أسهم الفلسطيني المسيحي محليًا ودوليًا في تجسيد وتحقيق مفاهيم التنمية البشرية ضمن إطار إيمانه، عقيدته وتنشئته المسيحية؟ ما المقصود بمفهوم التنمية البشرية وكيف استطاع الفلسطيني المسيحي من خلال انخراطه بالعمل المؤسساتي ومن خلال لاهوت التحرير الفلسطيني والكنائس، خلق قاعدة أساسية لانطلاق مفهوم التنمية البشرية في فلسطين تحت ظل المعاناة المستمرة وضيم الاحتلال الإسرائيلي.
خلال القرن الماضي، اعتبر النمو الاقتصادي بأنه أحد أهم العوامل الأساسية لتحقيق التنمية، وقد قدمت نظرية التنمية الاقتصادية النمو الاقتصادي ” كغاية” باعتباره الهدف النهائي، بينما قدمت البشر جنبا إلى جنب مع السلع الرأسمالية “كوسائل” لتحقيق هذه الغاية. لكن سرعان ما تعرضت هذه النظرية لانتقادات كثيرة من قبل العديد من الباحثين والفلاسفة الذين آمنوا أن الإنسان هو” الغاية” وعليه يجب أن يكون الإنسان هو الهدف النهائي والأسمى للعملية التنموية التي تهدف إلى توسيع حريات الإنسان والعدالة، وليس وسيلة لتحقيق الأرباح الاقتصادية.
وبناء على هذه الانتقادات، تم تعريف التنمية بأنها “عملية لتوسيع حريات الشعوب” و “عملية إدارة الموارد الطبيعية لتلبية الاحتياجات البشرية وتحسين نوعية حياة الإنسان”. تهدف التنمية البشرية بشكل أساسي إلى توسيع حريات الفرد وتعزيز قدراته وتمكينه من المشاركة الفاعلة في عملية التطوير والتنمية، من خلال أدوات تحفز المساواة، الكفاءة، الاستدامة، ومفاهيم أساسية أخرى. تشير بعض الدراسات إلى أن مفهوم التنمية البشرية يعود الى القرن الثامن العشر وبقي هذا المفهوم قضية قابلة للنقاش على مدى عقدين من الزمن تقريبًا إلى أن عرض برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP)) التقرير الأول للتنمية البشرية الأول مرة سنة 1990، حيث يهدف هذا التقرير إلى تقييم نوعية الحياة ويـُستعمل كأداة قياس وتحفيز لتحسينها.
إنّ ربط مفهوم التنمية البشرية بالدين موضوع برز خلال العقد الماضي. عالميًا، كان هناك تحول ملحوظ في مجال استراتيجيات التنمية الدولية، الممارسات والأبحاث الدولية، لشمل الدين باعتباره عاملاً بارزًا يوثر في نهضة التنمية البشرية. وكانت أول مبادرة دولية في هذا المجال من رئيس البنك الدولي السابق “جيمس ولفنسون” ورئيس أساقفة “كاتدرائية “كانتربري” في جنوب بريطانيا، الذين أسسوا منظمة مكرسة اعتبرت الدين عاملا مهما في قياس ورفع مستوى التنمية البشرية عام 1998. وتبعه بعد ذلك إنشاء مؤسسات دولية أخرى لدعم هذا المجال، حيث اعتُبر الدين أكثر من مجرد أداة للتنمية بل عاملاً ملحًا يتوجب أخذه بعين الاعتبار خصوصا في الدول النامية التي يشكل الجانب الإيماني فيها ركيزة مجتمعية وعاملاً حساسًا.
في فلسطين أخذت المؤسسات الدينية دورًا بارزًا في تنمية المجتمع الفلسطيني، وهنا يقتضي التوضيح أن المقصود بـ”مؤسسات دينية” هي المؤسسات التي تعمل محفزة بمبدأ الإيمان المجرّد، بحيث تستمد الإلهام والتوجيه لأنشطتها من تعاليم ومبادئ الدين والتي تركز في عملها على خدمة الفئات المهمّشة والمظلومة. فمن خلال هذه المؤسسات، سعي مسيحيو فلسطين إلى المشاركة والعمل الدؤوب من اجل النهوض بالمجتمع المحلي، وتوفير الحياة الكريمة لأفراده.
فعلى مستوى التعليم، يعود تاريخ إنشاء المدارس التابعة للكنيسة في فلسطين إلى منتصف القرن التاسع عشر، انطلاقا من الإيمان بان التعليم هو العامل الأهم لبناء شباب فاعل ومشارك. ومن الجدير بالذكر أن هذه المدارس خدمت المجتمع الفلسطيني ككل، مسيحيون ومسلمون ليس فقط في المدن بل شملت القرى الفلسطينية أيضًا. ولرفع مستوى التعليم العالي للشباب الفلسطيني، تأسست جامعة بيت لحم التي هي جامعة مسيحية كاثوليكية عام 1973 كأول جامعة في الضفة الغربية، وجامعة بيرزيت التي بدأت كمدرسة إنجيلية وأصبحت واحدة من أكبر الجامعات في فلسطين، والتي تأسست بجهود مثمرة لعائلة فلسطينية مسيحية، عائلة ناصر من مدينة بيرزيت. وعلى مستوى القطاع الصحي، عنيت المؤسسات الدينية بتوفير الرعاية الصحية للفلسطينيين، حيث انشأت العديد من المستشفيات في بيت لحم، القدس، الناصرة، حيفا، نابلس، رام الله، وغزة. بالإضافة إلى المراكز الخاصة لرعاية المسنين.
وبرز دور المؤسسات المسيحية في مجالات المبادرة للدفاع الوطني، فنشط الفلسطيني المسيحي في العديد من مؤسسات حقوق الإنسان، مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الفلسطينية التي رصدت توسع المستوطنات الإسرائيلية وراقبت عن كثب فقدان الأراضي الفلسطينية.
على غرار ذلك، قام عدد كبير من اللاهوتيين المسيحيين والقادة السياسيين المسيحيين بمحاكاة المجتمع الدولي للتعريف بحقيقة النزاع في الأرض المقدسة ولضمان بناء فلسطين وتعزيز الكيان الفلسطيني في هذه الأرض. وهنا برز الدور الحيوي للاهوت التحرير الفلسطيني الذي هو حركة شعبية مسكونية، متجذرة في تفسير الكتاب المقدس، ومبنية على آمال وأحلام وكفاح الشعب الفلسطيني الذي يتوق إلى تحقيق العدالة والسلام في أرض مسيح السلام.
يسعى لاهوت التحرير الفلسطيني إلى فتح نوافذ جديدة واسعة ومطلة على فهم جديد للمعنى الحقيقي للعدالة، العدل، والسلام ويلقي الضوء على مفهوم الإيمان المسيحي ودوره في تعزيز الوجود المسيحي الفلسطيني في ظل المعاناة اليومية والعنف والتمييز العنصري وانتهاك حقوق الإنسان الذي يتفنن الاحتلال الإسرائيلي في ممارسته ضد الشعب الفلسطيني. ومن المهم ذكره أن هذا الجهد المزهر قد لقي نجاحا كبيرا على المستوى الدولي وعزز بوضوح الوعي الدولي لطبيعة الوضع السياسي الراهن في فلسطين وشجع المسيحيين في أنحاء العالم للعمل من اجل تحقيق العدالة ومساندة الشعب الفلسطيني في ظل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
“وثيقة كايروس” التي وقعت عام 2009 من قبل قيادات الكنائس والمؤسسات المسيحية هي الوثيقة التاريخية التي توّجت جهود ودعوات لاهوت التحرير الفلسطيني. هذه الوثيقة التي تمثل كلمة الفلسطينيين المسيحيين حول ما يجري في فلسطين وتمثل مطالبة حقيقية للمجتمع الدوليبوقفةحق ضد الظلم والتمييز العنصري والجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني الذي طرد وقتل وسرقت أحلامه قبل أرضه.
تكمن جرأة هذه الوثيقة وأهميتها في نصها بأن “الاحتلال العسكري لفلسطين يعتبر خطيئة ضد الله وضد الإنسانية” وفي طرحها للحل الذي سيؤدي إلى السلام العادل ألا وهو “إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وكل أنواع التمييز العنصري وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس”، وفي هذه الدعوة، تحاكي الوثيقة جميع الكنائس والمسيحيين في العالم إلى مقاطعة إسرائيل وفرض عقوبات اقتصادية عليها وسحب الاستثمارات منها، لإلغاء القوانين العنصرية المتخذة من قبلها بهدف التمييز ضد الفلسطينيين. وهي نفس الدعوة التي أطلقتها كنائس جنوب أفريقيا، عندما أعلنت “أن نظام الأبرثايد خطيئة ضد الله والإنسان”. ودون أدنى شك، فإن هذه الوثيقة تجسد استمرار الدور الريادي والقيادي الحقيقي للفلسطينيين المسيحيين في مقارعة الاحتلال الإسرائيلي والسعي الدائم لتحقيق الأمن والعدالة للمجتمع الفلسطيني.
وعلى الرغم من هذا كله، وعلى الرغم من أن لغة الخطاب والمفاهيم في كل من الدين المسيحي والتنمية البشرية متماثلة، يبقى النقاش حول دور الفلسطيني المسيحي في تحقيق التنمية البشرية في فلسطين موضوع مهمّش لم يستوف حقه.
في محاولة لقياس وتوضيح مدى إسهام الوجود الفلسطيني المسيحي بدافع الانتماء الوطني والإيمان في تحقيق أسس التنمية البشرية في فلسطين استند هذا البحث إلى دراسة أربعة مؤشرات أساسية، تشكل صلب مفهوم التنمية البشرية. هذه المؤشرات هي: محاربة الفقر وعدم المساواة، العدالة، المشاركة الفاعلة، والحرية. ولدراسة هذه المفاهيم، كان لابد من الاطلاع على وثائق لاهوت التحرير الفلسطيني ووثيقة كايروس، للاستدلال بهما، واستنباط النتائج التالية:
محاربة الفقر وعدم المساواة: ينظر مفهوم التنمية البشرية إلى الفقر وعدم المساواة كعدو للتطور ومثبط للقدرات البشرية. لذلك يسعى مفهوم التنمية البشرية إلى محاربة الفقر وعدم المساواة لخلق تغيير ايجابي جذري في المجتمع. حيث أوضحت الإحصائيات المنشورة كما ذكرت سابقا في عدد من الدراسات إلى أن الكنائس في فلسطين وخاصة الكنيسة الكاثوليكية قد عملت على تعزيز صمود الفلسطينيين في الوطن على أسس صلبها المساواة والمحبة كما جاء في الكتاب المقدس “أحبب قريبك كنفسك” (مرقس 12: 30-31). بحسب الدراسات، فإن 45% من العمل المؤسساتي في فلسطين هو عمل يعود لمؤسسات مسيحية. قدّمت هذه المؤسسات فرص عمل لنحو ما يقارب 22000 عائلة فلسطينية منها 15000 عائلة مسلمة و7000 عائلة مسيحية. فبالإضافة إلى أن ثلث المسيحيين الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية يعملون في مؤسسات تابعة للكنائس، إلا أنّ هذه الفرص شملت أيضًا الأخوة المسلمون، عدا عن الخدمات الاغاثية والخيرية التي تقوم بها الكنيسة باستمرار للمجتمع الفلسطيني ككل. هذه الدراسات تشكل مؤشر قوي ودليل يمكن الاعتماد عليه للتدليل على دور الفلسطينيين المسيحيين والكنيسة في محاربة الفقر ومحاربة عدم المساواة.
العدالة: وهي من أهم المفاهيم التي يناقشها مفهوم التنمية البشرية إذ أن التغيير الاجتماعي الايجابي مبني على العدالة الاجتماعية وعلى وضع الفئة الفقيرة والمهمّشة في اعتبارات المجتمع لضمان المساواة وعدم التفرقة. وفيما لا شك فيه، فإن العدالة هي من أهم أسس وتعاليم الكتاب المقدس. “إن جميع سبله عدل” (سفر التثنية 4:32) من منطلق ذلك يساند الكتاب المقدس والتعاليم المسيحية ترسيخ مفهوم العدالة التي تولى الاهتمام والعناية بأزمة الفقراء والمعوزين الذين سماهم الكتاب المقدس” هؤلاء الأصاغر”. بالتالي، فقد التزم الفلسطينيون المسيحيون بتطبيق التغيير الاجتماعي الايجابي القائم على العدالة الاجتماعية، من خلال دمج الفئات المهمّشة والفقيرة في جميع السياسات المطبقة للتنمية، كما وعملوا دعاة للعدل لتوفير الاحتياجات الأساسية للعيش الكريم وساهموا بإخلاص في رفع مستوى قطاعي التعليم والرعاية الصحية، وتوفير فرص العمل لكافة أبناء المجتمع على اختلاف دياناتهم.
المشاركة الفاعلة: الإنسان هو مركز نهج التنمية البشرية وعليه فإن الإنسان الفعال في مجتمعه هو الذي يسعى نحو توظيف قيمه الإنسانية وتحقيق التطوير والحياة الكريمة لنفسه وبالتالي للمجتمع الذي يعيش فيه. وهنا لا بد أن نذكّر أنّ الفلسطينيين المسيحيين شكلوا عبر عدة عقود من تاريخ فلسطين، روافد حيوية في بعث الثقافة وبث روح الكفاح الوطني، والتاريخ الفلسطيني مطرز بأسماء رموز مسيحية غنية عن التعريف في مجالات الفكر والثقافة والكفاح الوطني والعمل السياسي والذين كانوا طلائع متقدمة في الدفاع عن حرية فلسطين. هذا بالإضافة إلى كونهم دعاة ناشطين ومشاركين فاعلين في عمل المؤسسات الإنسانية التي عنيت بقطاع التعليم والصحة، والمؤسسات الإعلامية ومؤسسات حقوق الإنسان. ونقلا عن أحد الدبلوماسيين الفلسطينيين المسيحيين فإنه “بقليل من المخاطرة يمكن القول إن المسيحيين الفلسطينيين كانوا حجر الزاوية في تأسيس الهوية الوطنية الفلسطينية، وبتصدرهم ساحة العمل الوطني وإبداعاتهم الثقافية ساهموا في تجنيب الشعب الفلسطيني إشكاليات التناقض بين الهوية الوطنية والهوية الدينية”.
المؤشر الرابع، الحرية: حرية الحركة، حرية التعبير عن الذات، حرية التفكير والانتماء، وأي مفهوم للحرية التي تهدف إلى تطوير المسؤولية الفردية، التمكين، والعمل العام المسؤول. وعند اقتران هذا المفهوم بالقضية الفلسطينية فهو المفهوم الأهم والأشمل على الإطلاق. فعلى الرغم من الإسهام الفلسطيني المسيحي الواضح والجلي في باقي المفاهيم، إلا انه وبدون أدنى شك، يبقى مفهوم الحرية هو المولد والمحرك المحفز للمفاهيم الثلاثة السابقة.
بالنسبة للفلسطينيين، يبقى مفهوم الحرية مختلفاً يأخذ طابعاً وأبعاداً متنوعة، تتعدد بتعدد الطرق التي يتفنن فيها الاحتلال الإسرائيلي بسلب الحرية. بسبب الحواجز الإسرائيلية ومع الوجود البغيض للجدار الفاصل، تحولت المدن والقرى الفلسطينية إلى سجون كبيرة، وأضحت عملية التنقل فيما بينها مهمة صعبة موشحه بالذل اليومي، حتى إن كانت لأسباب دينية لزيارة الأماكن المقدسة والصلاة فيها، يمنع الفلسطينيون المسيحيون والمسلمين من الوصول إليها تحت ذريعة توفير الأمن. ولا بد أن نشير هنا أنّ الفلسطينيين الذين يقبعون في السجون الإسرائيلية هم جزء لا يتجزأ من الواقع الفلسطيني والحرية. أولئك الفلسطينيون الذين فقدوا حريتهم لتأمين الحرية لأرضهم وشعبهم فهم نموذج حيّ للتضحية من أجل تجسيد مفهوم الحرية. من زاوية أخرى، ونتيجة لانعدام الحرية، تشكلت مشكلة الهجرة التي تهدد الوجود الفلسطيني بشكل عام، والوجود الفلسطيني المسيحي بشكل خاص. فعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في المنطقة، دفع الشباب الفلسطيني إلى الهجرة بحثًا عن السلامة والأمن، والعيش الكريم في الخارج، ففلسطين تشهد ظاهرة هجرة الأدمغة والذي يعتبر تهديدًا حقيقيًا للوجود المسيحي، كونهم الفئات الأكثر تضررًا على هذا الصعيد.
وفي ذلك كله، نادى الفلسطينيون المسيحيون في الوطن والمهجر من اجل تحقيق الحرية وإعلاء كلمتهم وإعلان موقفهم على أساس إيمانهم المسيحي وانتمائهم الوطني الفلسطيني.
ومن المهم ذكره أن الدراسة ألقت الضوء على الدور الذي لعبه الفلسطينيون المسيحيون الذين ناضلوا بالكفاح المسلح. فمن ناحية، أظهرت نتائج البحث الثناء على دور المقاومة السلمية في حل النزاعات واستساغتها كتطبيق فعلي لمفاهيم التنمية البشرية وارتباطها الأكبر بمفاهيم التعليم المسيحي، ومن ناحية أخرى فان الفلسطيني المسيحي يظهر ويعلن احترامه للكفاح المسلح كونه مشروع قانونيًا، بل هو حق وواجب على كل فلسطيني، إضافة إلى أن التنشئة والتعاليم المسيحية تقدّر وتعلي من شأن الشهداء والأسرى الذين قدموا أرواحهم بدافع الحب والوفاء والتضحية من أجل فلسطين. لكن يبقى اتخاذ الكفاح المسلح كوسيلة للمقاومة قرار “براغماتي”، يجب مناقشته بحكمة وعقلانية كون أن الطرف الإسرائيلي هو الطرف الأقوى.
بالإضافة إلى ذلك، كون أن لاهوت التحرير الفلسطيني مبني جنبا إلى جنب مع القوانين الدولية ويحاكي المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان وقرارات الأمم المتحدة، تبقى المقاومة السلمية هي الخيار الأفضل لأنها أثبتت تقديم نتائج أفضل على صعيد حل النزاعات، ولأنها تحفظ إنسانية وكرامة الإنسان الفلسطيني وتمنع الجهات الإسرائيلية من تقديم الفلسطيني كطرف إرهابي أمام المجتمع الدولي، إضافة إلى أن الطرف الفلسطيني هو الطرف الأضعف عسكريًا واتخاذ الكفاح المسلح كوسيلة سوف يغذي الطرف الإسرائيلي لارتكاب المزيد من الظلم والجرائم. فضلاً على أن المسيحية هي ديانة محبة وتسامح، وهنا يقتضي التأكيد على أن هذه الحقيقة “حقيقة أن المسيحية هي ديانة المحبة والتسامح” لا ينبغي بأي شكل من الأشكال أن تهمش الحقيقة الراسخة بأن الفلسطيني المسيحي هو مواطن فاعل لا يقبل الظلم ويقاوم الاضطهاد. إذ أن الفلسطيني المسيحي هو جزء لا يتجزأ من المجتمع الفلسطيني، هو جزء معايش للمعاناة نفسها يواجه التحديات ذاتها، ويشارك أبناء شعبه الطموحات عينها، بل ويساهم بفاعلية ونجاح في تنمية المجتمع الذي يعيش فيه. الفلسطيني المسيحي يرفض فكرة أن يميز “سلبًا أو إيجابًا”. من جهة، يرفض أن يمارس ضده أي نوع من أنواع التمييز العنصري، لأنه يشارك أبناء شعبه نفس الحقوق والواجبات فضلاً عن قيمته في الأرض المقدسة. ومن جهة أخرى، يرفض أن يتم تمييزه “إيجابًا” تماشيًا مع رفضه لفكرة “الأقليات”. وبالتالي فإن الفلسطيني المسيحي ليس جزءًا معزولاً أو فردًا سلبيًا، يرفع نداءه إلى رؤية مشتركة، مبنية على المساواة وليس على التفوق ونفي الآخر.
وبناء على ما سبق، نتج عن البحث التوصيات التالية:
– المسيحي الفلسطيني هو فرد ديناميكي وجزء بنّاء في المجتمع الفلسطيني وهو ثروة قيّمة يجب الحفاظ على وجودها في الأرض المقدسة.
– الحرص على أن تسهم الكنائس يدا بيد مع الفرد المسيحي الفلسطيني بمزيد من الجهد لتعزيز مفهوم العيش المشترك وتقبل الأخر وأن تبدي الكنائس، المؤسسات، والأفراد أكثر انخراطًا في الحوار بين الأديان، من أجل تعزيز مفهوم “المواطنة العادلة”.
– توحيد عمل الكنائس من مختلف الطوائف في فلسطين لتحقيق نتائج تنموية أكثر شمولاً.
– يجب أن تواصل الكنائس، وخاصة الكنيسة الكاثوليكية تطوير وتعزيز “تعليم الكنيسة الاجتماعي” الذي يقود إلى حياة إنسانية والذي بدوره يعزز الممارسات والاستراتيجيات القائمة على مبدأ “اللاعنف”.
– العمل على تحديث وتطوير أساليب التعاليم الدينية حتى تصبح أكثر ملائمة للتطور المكاني والزماني. والحاجة إلى خطاب ديني جديد بتفسيرات متوازنة ومعتدلة تخاطب العقل والمنطق لتحقيق التغيير الإيجابي في المجتمع.
– توطيد العلاقة بين الحكومة الفلسطينية والكنائس بهدف تعزيز وتحفيز وتسهيل عمل المؤسسات التنموية خاصة على مستوى القطاع التعليمي لخلق مواطن مسؤول مسلح بالمعرفة والثقافة، بالإضافة إلى القطاع الصحي لحفظ الكرامة الإنسانية. كما يجب الاتفاق على برنامج عمل اقتصادي واجتماعي وثقافي لمواجهة ظاهرة هجرة المسيحيين من الوطن.
– توحيد مفردات الخطاب الوطني والديني بهدف تعزيز لحمة الوحدة الوطنية بين الفلسطينيين ككل، وتعزيز مفاهيم الهوية الوطنية، العيش والمصير المشترك للشعب الفلسطيني.
– عدم تسييس الدين المسيحي. تجسيد تعاليم الكنيسة والعقيدة المسيحية لدعم تنمية المجتمع فقط، ذلك أن دمج الإيمان الديني في السياسة يترتب عليه تلويث المعاني الأخلاقية الرفيعة للدين، وتحويل الدين إلى ساحة صراع وليس إلى ساحة بناء.
ختاماً، أُجريت هذه الدراسة بهدف التعريف على أثر المساهمات الفلسطينية المسيحية في تحقيق التنمية البشرية في فلسطين. ضمن دراستي، أرجو أن أكون قد تمكنت من تسليط الضوء على الدور الهام الذي يلعبه مسيحيو فلسطين، والتأكيد على مساهمتهم في بناء أسس متينة لمبادئ التنمية البشرية التي ترتقي بالإنسان وكرامته كونه الغاية الأسمى والأهم لتنمية المجتمعات، عند ممارستها في بيئة تعزز مبدأ العيش المشترك وتهزم مبدأ التمييز ونفي الآخر.
رسالتي أخاطب بها الفلسطينيون المسيحيون على وجه الخصوص. نحن الفلسطينيون المسيحيون كنّا وباقون. تسامحنا ومحبتنا لا تُؤخذ علينا، وجودنا قوي وفاعل، زادُنا وقوّتنا تكمن في دحض “مفهوم الأقلية” الذي من شأنه أن يقودنا إلى “التعصّب”، تجذرّنا يكمن في إمكانيتنا بخلق تغير إيجابي في مجتمع يتعزز فيه مفهوم المواطنة العادلة. إن من كتب هوية وجوده الوطني في هذه الأرض وتقاسم الحياة في ميادين البندقية والقلم والبناء، وصاغ جوهر البقاء الفلسطيني هو نفسه الفلسطيني المسيحي الذي يُربّى مع أخيه الفلسطيني المسلم الأمل. الأمل في البقاء على أرض واحدة، مستقبل واحد وهمّ واحد.
ومع ذلك، كانت هذه الدراسة محدودة النطاق، حيث اعتمدت أكثر على الخطابات النظرية لمبادئ التنمية البشرية والمسيحية، واعتمدت إلى حد كبير على البيانات التي تم إستخلاصها من الأبحاث السابقة والمراجع التاريخية والمقابلات، عدا عن أن استقصاء المعلومات والنتائج من خلال المقابلات لم يكن سهلاً، نظرًا لحساسية النقاش في الجانب الديني. ولذلك، يمكن اعتبار هذه الدراسة بمثابة قاعدة لعمل دراسات أكبر وأشمل من أجل استكشاف التأثير الحقيقي لمساهمة الفلسطينيين المسيحيين في تحقيق التنمية البشرية وخلق تغيير إيجابي في المجتمع الفلسطيني.