عام 2017 عام ذكريات أليمة. وهي عبر. وهي دعوة إلى الصلاة. والصلاة عبادة خاشعة أمام الله خالق الكل. خالق كل المتقاتلين في أرضه. والصلاة جهد سلام. ليست جهد حرب. ولا واقع حرب. ولا واقع اغتصاب لأماكن مقدسة يصلي فيها آخر، مهما كانت صلتها بالمؤمن بها.
الحرم الشريف، والمسجد الأقصى وقبة الصخرة، مكان مقدس للمسلمين الفلسطينيين وفي العالم. والموقع نفسه مكان مقدس لليهود. ولكنه اليوم وعبر الأجيال مكان صلاة المسلمين. والصلاة ليست استئصالا لمؤمن من مقدساته، مهما كان الماضي البعيد. الصلاة احترام لصلاة الآخر. الصلاة ليست حربا، ولو حصلت في التاريخ حروب بحجة الدين والأماكن المقدسة. أخطاء الإنسان في التاريخ كثيرة. والأخطاء الماضية تبقى أخطاء، وهي عبر للحاضر اليوم حتى لا تتكرر.
اليهودي المؤمن يصلي في مكان صلاته. لا في مكان صلاة المسلم. المؤمن اليهودي يُدخِل السلام في قلبه، يحرر نفسه من الحرب في نفسه. وبتحرير نفسه يصنع السلام وتحل السكينة على أرض الله، فتعود أرضا مقدسة لا أرض حرب.
مكان صلاة للمسلمين منذ الف وخمسمئة سنة، هو مكان صلاة للمسلمين. هم يبقون حيث هم. وصلاة اليهودي المؤمن لا يمكن أن تكون حربًا على المسلمين ولا على أماكنهم المقدسة، ولو كانت في قديم الزمان مكان صلاة لهم. فلسطين كلها ضحية حرب. أما صلاة المؤمنين فلا يجوز أن تصبح هي أيضا ضحية حرب.
الحرب حرب ولا يمكن أن تكون صلاة. لا يمكن أن تكون الحرب مثولا أمام الله إلا مثول الآثم أمام ديان العالمين. الحرب، من واجب الإنسان ومن واجب المؤمن بصورة أولى، أن يزيلها، وأن يبدلها بسلام في القلب أولا، لينتقل من القلب إلى المعاهدات المنشودة بين الشعبين المتقاتلين. حالة الحرب الراهنة يجب أن تبدل بالسلام. والأمر ممكن.
يقول الإسرائيليون: إنهم خائفون على أمنهم. وقال بعض وزرائهم بصراحة: لا مكان للفلسطينيين. ونقول: الخوف يُلغَى، إن التقى الإسرائيلي والفلسطيني كما يلتقي إنسان بإنسان، كلاهما قادران على صنع سلام مبني على العدل والمساواة في الكرامة. وهذا يعني نهاية الاحتلال. هذا يعني التوقف عن تعبئة الجماهير الإسرائيلية بكراهية الفلسطيني ولنرى العيش معه أمرا مستحيلا. هذه التربية نقيض لما هو واجب كل حاكم يحكم شعبا، ويتحكم بالعلاقة بين شعبين.
الخوف يزول إذا التقى الناس. وإذا تمت المساواة بين الناس. وإن لم يبق ظالم ومظلوم. الخوف مصدره ظلم الظالم، وبناء عليه يبدأ القوي فيزيل ظلمه، وبهذا يصنع أمنه، لا باسلحته ولا بحالة حرب مستمرة.
وأما قول بعض الوزراء الإسرائيليين اليوم: لا مكان للفلسطينيين. فهي الحرب بعينها. فلا بد من تبديل في قلوب هؤلاء المسؤولين وفي رؤيتهم وأقوالهم. في ارض الله، في ارض فلسطين، مكان للفلسطينيين، في دولة مستقلة، إلى جانب دولة إسرائيل. والقدس إن كانت حقا مدينة الله والناس، في نظر كل المطالبين بها، فسيجدون فيها متَّسعًا لحقوق جميع أهلها.
سنة ذكريات أليمة وأخطاء منها تستخلص العبر. العبرة الأولى: الدول التي أوجدت هذه الحالة التي ظلم فيها الفلسطيني وسلب أرضه وبيته تتحمل مسؤولية إصلاحها، لا بتعويضات مال، بل بالعمل الجادّ لإنهاء حالة الحرب والرفض المتبادل. الدول التي ساندت ولادة الحالة التي نحن فيها تتحمل مسؤولية الدماء التي أريقت وما زالت تراق، هي مسؤولة عن اللاإنسانية التي شوهت قداسة هذه الأرض. وهي قادرة لو شاءت وأخرجت نفسها من حالة العجز التي فرضتها على نفسها تجاه الوضع الذي تعاني منه أرضنا المقدسة.
الأسرة الدولية، مهمتها العمل والضغط في سبيل السلام. وهو جهد وجودي لكلا الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، فلا يبقى الإسرائيلي معتديا وفارض احتلال، ولا يبقى الفلسطيني مقاومًا ومتَّهَمًا بالإرهاب لأنه يطالب بحريته.
هل في الأسرة الدولية أناس واعون وأقوياء ومحِبّون ومنصفون يقدرون أن يقوموا بواجبهم؟ أم يُترَك المتقاتلون يستمرّون في القتال، إلى أن يفصل الله بينهما. وسيأتي حتمًا يوم يفصل فيه الله ويعيد الأمور إلى نصابها. الدول تدول. وكذلك ظلم كل عظيم وجبار عنيد.
وأخيرا سنة 2017 هي سنة ذكريات أليمة وعبر للفلسطينيين.
العبرة الأولى: مراجعة واقعية شجاعة لما حصل مدة المئة سنة الماضية، وانتقاد للذات في كل ما حصل من أخطاء أو صواب. ثم وضع رؤيا جديدة. وأرى في الرؤيا الجديدة المزيد من التواصل بين المسؤولين والناس. الوضع صعب، الوضع مستحيل. فليكن المكوِّن الأول في الرؤية الجديدة، التواصل بين المسؤولين والشعب، بحيث يحمل الجميع ثقل الوضع الصعب والمستحيل بالتساوي. نحن مغلوبون على أمرنا؟ كلنا مغلوبون وكلنا واعون الوعي نفسه، وكلنا مسؤولون ومواجِهون.
السلطة الفلسطينية سعت في طريق السلام، فوصفتها إسرائيل بالضعف. ولو سلكت طريق القوة والعنف لوصفتها بالإرهاب. إسرائيل اليوم تقول: لا ، لكل طلب فلسطيني: لا للدولة، لا للقدس، لا للفلسطينيين، لا للسلام مع الفلسطينيين. كل ذلك، يحمله المسؤولون والشعب معًا. هذا “الحمل معًا” يصنع شعبًا، غاضبًا على العدو لا على نفسه. و”صنع الشعب” مقدمة للحرية والدولة المستقلة.
عبرة أيضا: الانقسام الفلسطيني الداخلي أصبح العقبة الكأداء مثل الاحتلال وأكثر منه. الأحزاب السياسية تتكون لخدمة البلد، ولخدمة المواطنين في البلد، وليس من أجل الحزب أن يكون أو من أجل قياداته أن تكون. الاحتلال علة. ولكن الانقسام علة أكبر.
عبرة ثالثة، بعض الفلسطينيين يعيشون. بعضهم خبزهم موفر. وبعضهم خبزهم غير موفر. بعضنا يعيش وبعضنا يُعذَّب، في السجون أو في الفقر، وعلى عذابهم نحن نعيش. وبعضنا يجهل هذا أو يتجاهله. هذا مكوِّن هامّ في الرؤية الجديدة، حيث المسؤولون يتواصلون مع الناس فيوفرون لهم الخبز الكريم، ويشاركونهم شدة الحياة نفسها، مقدمة للحرية والاستقلال.
عبرة أيضًا، مسؤولية رجال السياسة، ورجال المال، ورجال الفكر، ورجال الدين، لإيجاد حالة المشاركة والوحدة، بالرغم من الاحتلال، بحيث يشعر الجميع أن الكل يشعر بالكل، وأن الهم شامل، فلا يعيش واحد ويموت الآخر أو يُعذَّب. والفاسدون يرون فساد أنفسهم فيكفُّون عن الفساد. والمنقسمون يعرفون أنهم يقتلون الوطن فيكفّون عن الانقسام. والجميع يصبح إنسانا واحدا وأخًا لكل أخ وأخت له، والكل مطالب بالتساوي بالكرامة والحرية.
ومكوِّن أخير قد يأباه البعض: ليكن كل فلسطيني طالب حرية وحياة، في الوقت نفسه. لا طالب موت لا لنفسه ولا لفارض الاحتلال علينا. قوة الحياة أقوى من قوة الموت، ولو كانت الطريق طويلة. لأن الحق لا بد آت. والحرية آتية. ولكن يحق الحق وتأتي الحرية لمن يُعِدٌّ لها ولمن يجعل نفسه أهلًا لها.