(مقالة لسايمون ازازيان في مجلة القدس تجمعنا العدد الثاني)
من هم الأرمن:
الارمن هم شعب ينتمي الى العرق الاْري (الهند اوروبي)، ويعود وجودهم في ارض ارمينيا التاريخية الممتدة في الاجزاء الوسطى والشرقية من آسيا الصغرى (تقع حاليا في تركيا) الى الألف الثالث ق.م حسب الدراسات اللغوية والأثرية الحديثة والتقليد المتوارث القديم. وتمتد أرمينيا التاريخية الى الشرق من المنابع العليا لنهر الفرات وحتى بحر قزوين وإيران، وتحدها من الجنوب سلسلة جبال طوروس الأرمنية في حين تمتد ارمينيا الصغرى الى الغرب من منابع نهر الفرات. وتبلغ مساحة أرمينيا العظمى وأرمينيا الصغرى معاً حسب بعض المؤرخين، نحو 358 ألف كيلومتر مربع وهي تعادل نحو اثني عشر ضعف مساحة جمهورية أرمينيا الحالية.
الديانة:
تعد أرمينيا أول بلد اعتمد المسيحية كدين للدولة، وهو حدث يؤرخ تقليديا في عام 301م. الديانة السائدة في أرمينيا هي المسيحية والكنيسة الوطنية في البلاد هي الكنيسة الارمنية الارثوذكسية، التي تأسست وفق التقاليد الكنسية في القرن الاول على يد القديس تداوس والقديس برثلماوس، كلاهما من تلاميذ المسيح الاثني عشر، ولذلك تصف هذه الكنيسة نفسها “بالرسولية”. من ناحية الطقوس، للكنيسة طقوسها الخاصة المنبثقة من الحضارة والمجتمع الأرمني،غير انها تندرج في عائلة الطقوس و الليتروجيات الشرقية اي تلك التي نشأت في القدس ومن ثم ازدهرت في الرها. والكنيسة الارمنية ايضا عضو في مجلس كنائس الشرق الأوسط والمجلس العالمي للكنائس. ومن خلال هذين المجلسين، يتم التعاون مع سائر الكنائس والطوائف المسيحية.
ينتمي اكثر من 93% من المسيحيين الأرمن الى الكنيسة الرسولية الأرمنية الأرثوذكسية، سواء داخل أرمينيا أم خارجها. ونتيجة لحركات الاتصال مع الفاتيكان خلال القرون الاخيرة، نشاْت طائفة الأرمن الكاثوليك عام 1712، غير أنها لم تستطع ان تنتشر انتشاراً ملحوظاً داخل أرمينيا. بيد أن عدداً من الشتات الأرمني في سوريا ولبنان وفلسطين قد انتسب إليها. ويقع مقر بطريركيتها في بزمار إحدى بلدات لبنان، هناك أيضا أرمن بروتستانت خصوصا من المعمدانيين واللوثريين المشيخيين غير أنهم عموما أقلية ضئيلة.
مذبحة الارمن:
تعرض الأرمن في عهد الدولة العثمانية الى عدة مجازر، لعل أهمها المجازر الحميدية ومجزرة إضنا ومذابح الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى حيث راح ضحيتها ما بين 500 ألف وثلاثة ملايين أرمني.
وفي 24 نيسان من عام 1915 تم اعتقال اكثر من 250 من أعيان الأرمن في اسطنبول. وبعد ذلك، طرد الجيش العثماني الارمن من ديارهم، واجبرهم على المسير لمئات الاميال الى الصحراء من ما هو الآن سوريا، وتم حرمانهم من الغذاء والماء. حيث أن المجازر كانت عشوائية وتم قتل العديد بغض النظر عن العمر او الجنس، وتم الإغتصاب والإعتداء جنسياً على العديد من النساء، وبسبب هذه المذابح انتشر الأرمن في سوريا ولبنان والأردن وفلسطين.
الأرمن في فلسطين:
يعود وجود الأرمن في فلسطين الى القرن الرابع الميلادي، وثمة اعتقاد ان وجود الارمن في القدس كجماعة لم ينقطع منذ ذلك الحين. وقد لعب الأرمن في العصر الروماني دور التجار والحرفيين، وبرعوا في المهن المشتقة من هذا الدور. وفي أي حال كان الأرمن من آوائل الحجاج الذين أسسوا الخانات ومراكز الضيافة في فلسطين لاستقبال الحجيج.
ولم يغفل الرحالة الأوروبيين والعرب أخبار الأرمن عندما دونوا تفصيلات رحلاتهم، فأشاروا اليهم و أوردوا أخبارهم و ذكروا كنائسهم وأديرتهم. فالرحالة “لوران دارفيو” (1635-1702) يذكر في رحلته الى فلسطين أن في غزة كنيسة للأرمن الأرثوذكس، وان في عكا كنيسة لهم، أما الفونسو دي لا مارتين، “1790-1869” فيذكر في رحلته المشهورة الى الشام التي قام بها اْواخر العام 1832 أن في يافا عدداً من الارمن.
كان الأرمن في فلسطين الطائفة المسيحية الثالثة من حيث العدد والأهمية بعد الروم الأرثوذكس واللاتين، فالضريبة الجماعية المفروضة على سكان سنجق القدس من الأرمن سنة 1886 لقاء الاعفاء من الخدمة العسكرية في الجيوش العثمانية كانت قيمتها تعادل 260 دولار بأسعار تلك الأيام، في حين كانت 1217 دولار للأرثوذكس و826 دولار للاتين و56 دولار للأقباط و37 دولار للبروتيستانت و17 دولار للكاثوليك، وهذا يعني ان عدد الأرمن كان اكثر من عدد الاقباط والكاثوليك والبروتيستانت، وأقل من الأرثوذكس واللاتين، وعلى هذا الترتيب جرى تقسيم الاشراف على كنيسة المهد في بيت لحم سنة 1856، أي بعد حرب القرم المشهورة سنة 1853، بين اللاتين والأرثوذكس.
كان يقطن القدس سنة 1893، بحسب الاحصاء الذي نظمته الدولة العثمانية وقت ذاك 847 أرمنيا، وكان في يافا في الفترة نفسها 92 أرمنيا، فضلا عن اعداد غير محددة من الارمن في بيت لحم والناصرة ويافا وعكا وغزة. وفي سنة 1945 كان يعيش في القدس وحدها خمسة آلاف أرمني، وقبل عام 1976 كان تعداد الارمن في فلسطين حوالي 17 الف نسمة وقد تناقص العدد تدريجياً، حيث وصل الى ثلاثة آلاف أرمني في القدس قبيل الاحتلال سنة 1967 ولم يكد العام 1974 يطل حتى صار عددهم في القدس القديمة ألفي أرمني فقط. وفي عام 1985 تراجع العدد الى 1200 أرمني فقط، واليوم النسبة لاتتجاوز ال 500 أرمني في القدس. وهذا التضائل يعود الى نزيف الهجرة الذي يهدد المجتمع الفلسطيني الناتج عن الاحتلال وصعوبة ايجاد فرص عمل واندثار العديد من الحرف المهنية التي يقوم بها الأرمن.
يحتوي الحي الأرمني، أو ما يعرف بدير الأرمن، والذي تبلغ مساحته 300 دونماً، اي سدس مساحة البلدة القديمة ويحتوي مجموعة من البيوت كانت في السابق مأوى للحجاج وأصبحت لاحقاً بيوتاً مؤجرة للأرمن، اضافة الى حيز للعبادة ومدرسة ومتحف وعيادة طبية، يتميز الموقع بكاتدرائية القديس يعقوب حيث يعمل الأرمن بجهد للحفاظ على المبنى والآثار المقدسة التي تشكل قلب المجتمع الارمني داخل الحي الارمني. ويعود هذا الصرح الى القرن الثاني عشر، ويحتوي على كنز من الاعمال الفنية والقطع الاثرية التي لا تقدر بثمن. وحسب التقليد الأرميني، فإن من يعتنق المسيحية يتوجب عليه ان يحج الى القدس مرة واحدة في حياته على الأقل. وعلى مر العصور حج الى الارض المقدسة الكثير من مشاهير ملوك وملكات الأرمن ورجال الدولة وأمراء وأناس من جميع الأوساط الإجتماعية، حاملين معهم هدايا تذكارية من بلادهم ليتركوا أثراً مميزاً من الحضارة الأرمنية في القدس.
ويعتبر الارمن الحج الى القدس بمثابة شرف عظيم يكفل الحجاج منزلة اجتماعية مميزة. كان من الطبيعي أن يختلط السكان الأرمن بالعرب لعدة أسباب، منها أنهم اتقنوا اللغة العربية وتكلموها كأهلها وإن يكن مع لكنة خفيفة جداً بالنسبة الى البعض منهم كانت موضع اعجاب المستمعين لها، ومنها مشاعر الانتماء المصطلح عليها ب “الهوية” ذلك ان وجود الارمن في القدس كان خلافاً لمنطق وجود “الأقليات” في العالم كله. هم لم يشعروا بأنهم أقلية ولم يتصرفوا كأقلية. وهم مع محافضتهم التامة على خصوصيتهم كشعب له تقاليده وعاداته وصفاته وعلى تميزهم بتسميتهم كاغاكاتسي، وهذه كلمة تعني أرمن القدس المحليين، فقد تمكنوا من الاندماج بكل مناحي الحياة في القدس بحيث ما كانت كلمة “أرمني” تعني انتماء الى جالية اجنبية بإيجاز. كان الأرمني في مدينة القدس التي عاشت فيها غالبية الأرمن الفلسطينيين كما كان في سائر المدن الفلسطينية “أرمنياً” بكل ما في الكلمة من معنى، كما كان “فلسطينياً” بكل ما في الكلمة من معنى وما نظر العرب الفلسطينيون يوماً الى الأرمن الا نظرتهم الى ابناء الوطن الواحد، ولعل عطاء الأرمن الدائم في مجالات الثقافة والفن والعلم هو الدليل على اندماجهم الكلي في نسيج هذه المدينة العريقة.
الأرمن والسياسة:
انخراط الأرمن في السياسة متواضع نسبياً ولكن هذا لا يعني انهم بمعزل عنها، فشبابهم انخرطوا في العمل الوطني وانضم عدد منهم تحت لواء الفصائل والتنظيمات والأحزاب السياسية الفلسطينية. كما وأن أغلب الأرمن يدعمون فكرة حل الدولتين وهم ضد الاستيطان شأنهم في ذلك شأن باقي أبناء الشعب الفلسطيني بل ويشاركون في مواجهته. والأرمن يرفضون رفضاً قاطعاً أن يبقى الحي الارمني في القدس تحت السيادة الإسرائيلية، فهم من حيث المبدأ ضد تقسيم المدينة المقدسة ويرون أنها يجب أن تبقى تحت سيادة وسيطرة أبنائها الفلسطينيين.
يعاني الأرمن مثل غالبية المقدسيين من سياسات الحكومة الاسرائيلية وبلدية القدس، كون الحي الأرمني ملاصق للحي اليهودي ويحتل قسماً ضخماً من مساحة البلدة القديمة. بالرغم من قلة عدد السكان إلا أن تفريغه والاستيلاء عليه سيساهم بشكل كبير بتوسيع الحي اليهودي. وبالإضافة الى ذلك، يقوم طلاب المدارس الدينية اليهودية بشكل شبه يومي بمضايقه رجال الدين الأرمن ويدنسون ممتلكات الارمن بشكل متعمد. أما الشباب الارمني يجد فرص قليلة في التعليم او العمل في البلدة القديمة في القدس، فيذهبون الى الخارج للحصول على التعليم الجامعي وعند رجوعهم للقدس يتفاجئوا أنهم فقدوا حقهم في الإقامة وقد سحبت هوياتهم على الرغم من أنهم ولدوا في القدس وأسرهم يعيشون في القدس منذ عدة قرون. المعروف ايضاً، أن البطريركية الأرمنية وظفت اموالها إبان الانتداب البريطاني في الميدان العقاري، مما جعلها من أكبر ملاكي الأراضي في القدس ولأن الحي الأرمني في المدينة يجاور الاحياء اليهودية الاستيطانية الجديدة فقد نتج عن هذا الامر احتكاك دائم بين الأرمن واليهود، وحاولت السلطات الاسرائيلية اجبار الكنيسة الأرمنية على بيع الاراضي التابعة لها للتوسع في عمليات الاستيطان وعمدت الى مصادرة بعض العقارات، من بينها عمارة فندق فاست التي هدمت ثم بيعت أرضها الى شركة اسرائيلية أنشأت في مكانها فندقاً جديداً، واْقامت البطريركية دعوى قضائية لدى محكمة الاستئناف الاسرائيلية العليا لكن المحكمة لم تبت في هذه القضية حتى الآن.
الكنيسة الارمنية في فلسطين وقفت وقفات وطنية مشرفة ضد الاحتلال الاسرائيلي وضد قرار تقسيم فلسطين 3-3-1948، وجه ممثلو احدى عشرة طائفة مسيحية في فلسطين نداء الى الامم المتحدة والى الهيئات العالمية الدينية والسياسية اعلنوا فيه رفض التقسيم وطالبوا باستقلال فلسطين دولة ديمقراطية يستطيع فيها الجميع، مسلمون ومسيحيون ويهود، أن يشتركوا في الحكم. ووقع هذا النداء بطريركية الأرمن الارثوذكس وممثلية البطريركية الأرمنية الكاثوليكية.
وفي هذا السياق، تجدر الاشارة ان الشاب الارمني هاروت كولزيان الذي سقط في 11-8-1991 شهيدا من شهداء الانتفاضة في مدينة رام الله، حيث انطلقت مسيرة جماهيرية حاشدة في حي الارمن اندمجت فيها الهتافات الوطنية من جهة وصلوات الكهنة الارمن من جهة اخرى في مشهد مهيب جمع العرب والارمن معاً.
تولى بعض ابناء الطائفة الارمنية مناصب رفيعة في السلطة الوطنية الفلسطينية، منهم مناوبل حساسيان سفير فلسطين في المملكة المتحدة والاكاديمي البرت اغازريان الناطق الرسمي باسم الوفد الفلسطيني الى مؤتمر مدريد سنة 1991م.
الاْرمن المبدعين:
يتميز الارمن بذكائهم الحرفي والصناعي .فهم اول من أسس مصنعاً للسيراميك في عهد الانتداب البريطاني في القدس حيث اشتهروا بصناعة الخزف، وهو فن قديم جدا في فلسطين لكنهم هم الذين عادوا وأدخلوه الى القدس حتى بات من اجمل الحرف اليدوية التي تعتز بها فلسطين. تعلم الارمن هذا الفن في شمالي تركيا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وطوروه حتى برعوا فيه في القرن الثامن عشر. وكان الأرمن أول من أحضر الكاميرا للقدس وأول من أنشأ ورشة للتصوير فيها، وهم ثاني من أدخل الطباعة الى فلسطين عام 1833م. كما أنهم اتقنوا الخياطة وصياغة المجوهرات، ومنهم شيخ الصيادلة الفلسطينييين نوبار ارسليان الذي كان يصنع الأدويه بيديه. وقد عمل الحرفيون الارمن على نشر هذه الصناعات في انحاء مختلفة من الاراضي الفلسطينية، أما اليوم فيعمل معظم الارمن في القدس في شغل وبيع المجوهرات وفي صناعة آنية النحاس وزخرفيتها، ويملك الكثير منهم متاجر لبيع الهدايا للسياح الوافدين الى الاراضي المقدسة.
وكان الأرمن يسيطرون تقليديا على قطاع صناعة الأحذية، لكن هذا القطاع راح يتقلص بسبب منافسة الاحذية الجاهزة للصنع وبسبب مضايقات الاحتلال لقطاع الصناعات الفلسطينية بشكل عام في مدينة القدس.
هناك اليوم حوالي 100 طالب وطالبة مسجلين في المدرسة الابتدائية الأرمنية الموجودة داخل الحي. هذه المدرسة تم تأسيسها في عام 1929 وقد بدأت حديثا باستقبال طلاب عرب من مدينة القدس ودمجهم مع الطلاب الأرمن وهذه دلالة واضحة على انخراط الارمن في المجتمع المقدسي ورغبتهم في لعب دور في بناء أجيال واعية تحافظ على جمال الفسيفساء المجتمعية في القدس.