برغم الآلام التي يعيشها شعبنا الفلسطيني ومع كافة أشكال المرار التي يتجرعها جراء الإحتلال من قتل واعتقال وتنكيل وتضييق وترهيب، إلا أن هذا الشعب الأبي الصامد يُبعث من الرماد في كل مرة وكأنه طائر الفينيق الذي لن يموت.
عائلة المرحوم سمير حلبي هي حكاية لقضية وطن، سطرتها الأيام بكل معاني الصمود وعزيمة النضال من أجل الدفاع عن وطن بكافة مقدساته المسيحية والإسلامية. شباب قضوا ريعان شبابهم داخل زنازين الإحتلال وافنوا جُل أعمارهم خلف قضبان المعتقلات ليصبحوا أيقونةً للحرية.
تنتظر ألكسندرا حلبي ذات السبعون عاماً أمام بوابات السجون الإسرائيلية، تنتظر بفارغ الصبر لحظة لقائها مع فلذات كبدها لتختلط معها كل مشاعر الامومة والمحبة، لقاء من نوع اخر لقاء ابنائها القابعين في زنازين الاحتلال لقاء بكل شغفٍ وحب وعزيمة، دون كللٍ او ملل. ففي بعض الأعوام كان الاحتلال يتعمد إعتقال ابنائها الأربعة في وقتٍ واحد. ليترك خلفه والدتهم الكاهل بحرقة اللوعة والخوف على أبنائها، وتسبقها أحياناً دموعها وهي تحدثك عن اشتياقها لهم.
تقول كَبر الشباب الأربعة وكبر معهم حب الوطن.
بدأت الحكاية مع ابننا البكر “رائد” الذي إلتحق في ربيع عمره بالاتحادات والنشاطات الطلابية، والذي أضحى شاباً في عامه الدراسي الثاني في جامعة بيرزيت، وفي يوم شَعر رائد بوجود من يتتبع خطواته، وسرعان ما تبددت هذه الشكوك لواقع، ففي العام 2004 كان الموعد الأول للعائلة مع قوات الإحتلال. في يوم صيفي حار كان نائل وهو الشقيق الأصغر عائداً للمنزل تفاجئ بوجود دوريات وقوات من جيش الاحتلال الإسرائيلي منتشرة تملئ ارجاء المكان، ولم يخطر في باله حينها أن من يبحث عنه الإحتلال هو أخيه الأكبر رائد.
وعند دخوله للمنزل أخبر نائل عائلته أن الجيش يحاصر الشارع، ليخبرهم رائد بالمفاجأة بأنه قد يكون هو المطلوب وأنه من نشطاء المقاومة الفلسطينية، وما أن انهى كلامه حتى جاء طرق الباب مدوياً ودخلت قوات الاحتلال وفتشت المنزل بطريقة وحشية واعتقلت رائد، واعتقلت أيضاً والده الذي كان يعاني عدداً من الأمراض المزمنة أعتقوله للضغط على رائد لسحب الاعترافات وحرموا المسن من ادويته كل تلك الفترة.
في تلك الليلة، ودَعت الأم أول فرحتها بكل اعتزاز وفخر ومسلمة إبنها لرعاية الله، بعد أن وجه لها الضابط سؤاله “هل أنتم مسيحيون؟؟” فأجابته: “جئت إلينا ولا تعرفنا!” فقال لها ساخراً متهكماً: “لماذا تناضلوا ما دمتم مسيحيون؟” قالت: “لأننا أصحاب الأرض والحق وأن المسيح فلسطيني”. قال لها بإنها قد اساءت تربية أبنائها ولذلك يسقوم بإعتقالهم. لتجيبه: “لم أزل فخورة بهم، رغم أني لم أنجبهم لكي يتم اعتقالهم أو يُقتلوا ولكن هذا فُرض عليهم كما فرض علينا من احتلال يقتل ويضرب، ويعتقل”.
دام اعتقال رائد 6 أشهر ادارياً ولم يسمح لأهله بزيارته خلالها ومن ثم انتقل إلى سجن عوفر وحُكم عليه بالسجن لمدة عام ونصف. وحين حل شتاء ذات العام، داهمت قوات الاحتلال مجدداً منزل عائلة الحلبي، فقد جاء الوقت لتعتقل نائل الشقيق الأصغر لرائد، حين قارب بزوغ الفجر كان نائل لا يزال مستيقظاً يدرس للمرحلة الثانوية العامة. إقتحمت قوات الإحتلال المنزل مدمرةً الأثاث وساخرة ومهينة للأم ومهددة بإعتقالها، وهي لا تكترث لهذه العبارات والتهديدات وتقف كسدٍ منيع بينهم وبين ابنائها.
اعتقل الاحتلال نائل وبدأت مرحلة عذاب أكبر للعائلة فلا أحد يعرف إلى اي جهة تم اقتياده، حتى هو لا يعرف بأي سجن اعتُقل لغاية يومنا هذا. ولكن كل ما تريده الأم المكلومة معرفة مصير ابنها المفقود، وهي تبحث عنه في سجلات الصليب الاحمر وفي مؤسسات حقوق الانسان وفي أعين العابرين. وفي قلبها تشعر بأن ابنها يتعرض في هذه اللحظات للتعذيب الشديد لتبكي وترتعش فجأة دون سبب وهي على يقين بأن ابنها يتعرض لتعذيب شديد.
ظلت في هذه الحيرة والحالة حتى جائها اتصال من (الصليب الأحمر- تل ابيب) ليخبرها بأن ابنكم نائل بحاجة لمحامي بأسرع وقتٍ ممكن. وما أصعب ساعات الصباح حتى طل على هذه العائلة وانطلقت بسرعة متجهين لمحامي يساعدهم بالإفراج عن ولدهم، ولكن حُكم على نائل أربع سنوات ونصف ونُقل إلى سجن هشرون للاطفال لأن عمره أقل من 18 عام. ومنعت عنه الزيارة وكلما تقدمت العائلة بطلب تصريح زيارة يتم الرفض بسبب “عدم وجود صلة قرابة”. لتقف الأم امام بوابات السجون صارخةً “أي دم يجري في عروقكم ألم تلدكم امهات لتصلكم منها صلة قرابة”.
مرت الاعوام ليعود جيش الاحتلال بزيارة غير مرحب بها وكأن الاعتقال بالتسلسل وفي كل مرة يقع الاختيار على أحد الأخوة، وهذه المرة كان دور شقيقهم ناصر الذي كان يبلغ 19 عام، وحُكم سنة ونصف.
انتقلت العائلة للسكن بمنطقة بيت حنينا/القدس فهم من حملة الهوية المقدسية. وفي شهر ابريل/2011 اقتحمت قوات الاحتلال مدججة بالسلاح والعدة، اقتحمت منزل العائلة الجديد لتعود وتعتقل نائل وحكم سنة ونصف. ومرت أشهر قليلة ليعاد اعتقال رائد وحُكم لمدة سنتين. ومن ثم بعد أيام أُعتقل كل من ناصر ثلاث سنوات ونصف ورامي حُكم سنتين ، ليفرق الإحتلال الأخوة في سجونه المتفرقة من شمال الوطن لجنوبه في سجون (نفحة- جلبوع- عسقلان- النقب) وتترك والدهم المريض دون رعاية ووالدتهم وحيدة في صراعها تواجه خوفها على أبنائها الأربعة.
تقدمت العائلة بطلب لادارة السجون لوضع الأشقاء الأربعة في سجن واحد، ولكن الاحتلال يؤكد مراراً وتكراراً على عنجهيته وغطرسته وفقدانه لأبسط معاني الانسانية، وتم رفض الطلب، فما كان على العائلة إلا أن تقضي ايام (الاثنين،الثلاثاء،الأربعاء، والخميس) من كل اسبوع متنقلة بين السجون، ليصبح روتين معاناة العائلة بدأً من تقديم تصاريح الزيارة والتوتر الذي يسود حتى تتم الموافقة أو الرفض ومن ثم التعب الجسدي والإرهاق حيث رحلة الحافلة للوصول إلى السجن تستغرق 23 ساعة تقريباً من لحظة الانطلاق للحظة العودة، والتفتيش بشكل عنيف ووحشي.
أطل عام 2018 ليحمل في طياته الفرح لهذه العائلة بزواج الابن الاكبر رائد. وتبعه عام 2020 بفرح ناصر فرحةً كانت منقوصة بغياب نائل الذي يقبع خلف قضبان السجون منذ عام 2019 حتى يومنا هذا، فلم يشارك أخيه ناصر فرحة زواجه. اكتملت قسوة السجان على نائل بأن يشاء القدر أن يفارق والده (المرحوم سمير) الحياة دون أن يشارك في تشييع جثمانه أو احتضانه أو أن يلقى نظرة الوداع الأخيرة قبل أن يوارى جثمانه الثرى.
خسرت عائلة الحلبي الكثير جراء حبهم ودفاعهم عن الوطن، فقد قضى الأبناء سنوات عديدة من حياتهم داخل زنازين المعتقلات وأنهوا دراستهم الجامعية خلال فترات متقطعة ولم تكتمل فرحة هذه العائلة التي لطالما كانت تفتقد أحد أبنائها. ورغم كل هذه الصعوبات والممارسات الإرهابية إلا أن الإحتلال فشل بكسر إرادة الحرية وحب الوطن في نفوس أبناء الشعب الفلسطيني ولا يزال يولد في كل يوم الآلاف من طيور الفينيق في قلوب الفلسطينيين التي لا تعرف لحب الوطن نهاية ولغير الحرية سبيل.
مقولاتهم الشهيرة “إني أومن يا أماه أن روعة الحياة تولد في معتقلي”