مسيحيون تحت الإحتلال

غزة في عيد الميلاد

تتجه انظار العالم في كافة ارجاء المعمورة في مثل هذا الوقت في كل عام نحو مدينة السلام بيت لحم مهد السيد المسيح، إلا أن هذا العام فقد تنحرف البوصلة جنوباً لتتجه صوب قطاع غزة. فمنذ أكثر من شهرين يشن الاحتلال الاسرائيلي حرباً شرسه تجاه أكثر من 2 مليون فلسطيني من المدنيين العزل، فالشعب الفلسطيني في قطاع غزة بمسيحيه ومسلميه يتعرضون لإبادة جماعية وتطهير عرقي، تركت خلفها الآلاف من الشهداء والجرحى والمفقودين.
آليات الاحتلال المسعورة تدمر كل ما تجده أمامها من بشر وحجر، وبنية تحتية من كهرباء وماء، قصف متواصل ليلاً نهاراً دَمر المستشفيات، الكنائس والمساجد، المكتبات العامة والمدارس ومراكز ايواء النازحين، كما قصفَ المباني والبيوت السكنية على رؤوس ساكنيها من المواطنين الآمنين، ودُمرت الشركات والمؤسسات، ليتحول قطاع غزة إلى مقبرة جماعية.
بين شهيد وجريح، بين من فقد عزيزٍ وحبيب، أمام من تُرك مكلوماً وحيداً يصارع البقاء، وعائلات بأكملها مُسحت اسمائها من سجلات الاحوال المدنية، بين من يقف فوق أنقاض منزله لينادي على احبائه لعله يسمع صوتاً أو نفساً ليدل على أن أحدهم لا زال على قيد الحياة . بين جوعى وعطشى لماءٍ نقي نظيف صالح للشرب. بين صاروخ يطارد المصطفين من الناس أمام مخبز ليعجن الخبز بدمائهم. بين كل مسعفٍ يهرع للمكان ليجد عائلته هم الشهداء، بين صحفي يُصبح هو الخبر. حلّ العيد في العالم أجمع ولكنه لم يحل في ارض المسيح له كل المجد. حلّ العيد يحمل في طياته رائحة الموت التي تنتشر في كل مكان ورائحة الكارثة الوبائية والصحية، فلا بيت يأوي الآف النازحين، ولا شجرة تُضاء ليلتف حولها سكان القطاع بكافة اطيافه أو يتسارعون لالتقاط اجمل الصور والذكريات، بل نجدهم يتسارعون لانتشال ابنائهم اشلاء من تحت الانقاض.
يقضي مسيحي غزة والبالغ عددهم تقريبا 1000 مواطن عيداً مختلفاً عن أي عيد. فهم منذ بدء الحرب وبأمرٍ من قوات الاحتلال نزحوا تاركين خلفهم منازلهم وكل ممتلكاتهم الشخصية والخاصة إلى اللا مكان، تاركين مفاتيح منازلهم مع احفادهم كما فعلوا اجدادهم أبان نكبة 48، لنجد أن التاريخ يعيد نفسه مرةً أُخرى. وقرروا اللجوء إلى كنيسة القديس برفيروس للروم الارثوذكس، وكنيسة العائلة المقدسة للاتين، ظناً منهم بأنهم الأكثر أماناً. ولكن في تاريخ 19/10، أصابة شظايا صواريخ الاحتلال أحد مباني كنيسة الروم الارثوذكس وأودت بحياة 17 مواطن وما يقارب 20 جريح منهم حالات صعبة، وقبل أيام قنص أحد افراد قوات الاحتلال النازحين المتواجدين داخل كنيسة العائلة المقدسة فاستشهدت أم وابنتها وأصيب 7 أفراد، حاصرت قوات الاحتلال الكنيسة ومنعت طواقم الدفاع المدني او الاسعاف للدخول أو الخروج منها. كما أعطبت مولد الكهرباء، فأصبحوا بلا كهرباء أو ماء، يفترشون الارض بهذا البرد القارس. وتزداد الفاجعة بوجود المصابين وكبار السن المرضى، ففي مثل هذه الظروف وأنت في غزة المرض ممنوع لأن الموت سيكون النتيجة الحتمية، فلا دواء ولا امكانية للوصول لأي مركز طبي. ومع عدم وجود أدنى الحقوق الإنسانية للحياة، وتوقف كل معالم الحياة إلا أنهم يرفعون صلاتهم ويضيئون شموعهم وعليها تقام المراسم الدينية، فالأمل والرجاء بانتهاء الحرب لا ينقطع.
في زمن الميلاد ينشغل مسيحيي العالم وبشكلٍ خاص مسيحيي فلسطين يملأهم الفرح لتزيين شجرة الميلاد بأبهى صورها لتتوسط المدن والقرى والمنازل، إلا ان هذا العام فقد فقدت مدينة الميلاد فرحتها، مدينة بيت لحم لم تضع شجرة الميلاد في ساحة كنيسة المهد حيث تم الاستعاضة عنها بمجسّم لحجم الدمار الذي لحق بغزة وسيقتصر العيد على الشعائر الدينية فقط ولن تضيء شوارعها حزناً؛ على غزة وعلى مواطنيها الذين لن يُزينوا شجرة العيد في منازلهم فمعظم المنازل دُمرت سواء بشكل كلي أو جزئي.
نلتفت في مثل هذه الاثناء للعائلات فهم كانوا يبحثون عن أجمل الملابس ليتزين بها ابنائهم، في هذا العام لن يلبس الاطفال ملابس جديدة فهم ملائكة في السماء بسبب القصف الغادر. وبصورة منعكسة نجد الاطفال ينتظرون ابائهم ليحضروا لهم هدايا عيد الميلاد، ولكننا لن نخبرهم بأنه لا هدايا لهم هذا العام فابائهم شهداء. ينتظر مسيحو غزة سماع عزف ترانيم الميلاد من السيدة إلهام فرح التي تُركت على قارعة الطريق تنزف حتى الموت لأن قناص من قوات الاحتلال قرر اعدامها بعملية خارج القانون بكل دم بارد ومنعوا وصول سيارات الاسعاف او الدفاع المدني لمساعداتها.
رغم شلال الدم النازف، ستدق غزة في ذات يوم الاجراس وتعزف لحن الميلاد وتضيء شجرة الميلاد وستنعم بلادنا بسلام فهي ارض السلام.
Print Friendly, PDF & Email
Shares: