في ظل استمرار الحرب الشرسة غير المتكافئة الاطراف على قطاع غزة وسكانه المدنيين، من اطفال، نساء، وشيوخ، ومع ظل انعدام معالم الحياة التي أصبحت أقرب للحياة البدائية، يحاول بعض سكان غزة ممن تسمح لهم ظروفهم المادية والفرصة بالنزوح خارج حدود الوطن هرباً من حياة أضحت لا تشبه الحياة، يحاولون النجاة على أمل العودة لديارهم بعد انتهاء الحرب. فنجد آلاف الفلسطينيين المشردين من بيوتهم شقوا طريقهم باتجاه جمهورية مصر العربية عبر معبر رفح، المعبر البري الوحيد الذي يربط القطاع بمصر. هذه الطريق المعبدة بالموت، التي تحكي قصة تشريد وتهجير شعب من أرضه للمرة الثالثة تحت مسمع ومرأى العالم دون أن يُحرك ساكناً.
لارا جريس الصايغ 18 عاماً، واحدة من بين الكثيرين الذين فقدوا حياتهم، أثناء توجههم للمعبر. فالبعض فقد حياته نتيجة الإعياء من طول الطريق، وآخرين بسبب آليات الاحتلال التي استهدفتهم خلال رحلة بحثهم عن مكان آمن ينزحون إليه بعيداً عن الحرب وأصوات القذائف وزخات الرصاص.
مرت لارا وعائلتها بأقسى ايام حياتهم. فمنذ بدء الحرب لجأوا كغيرهم من العائلات المسيحية الى كنيسة العائلة المقدسة للاتين في حي الزيتون أحد احياء قطاع غزة. ونتيحة للقصف المتواصل واستهداف المدنيين العزل الآمنين في بيوتهم، وتدمير المباني السكنية والبنية التحتية للمدينة التي أصحبت مدينة رُكام فاقدة لكل معاني الإنسانية.
تعرفنا على عائلة الصايغ عن قرب من خلال تواصلنا مع شقيق لارا، السيد خليل، المقيم في امريكا منذ سنوات باحثاً عن حياة أفضل ومستقبل آمن، والذي قال “منذ عامين أُصيب شقيقي الصغير فادي والبالغ حالياً 21 عاماً. بفشل كلوي وأصبح بحاجة لغسيل كلى ثلاث مرات أسبوعياً. لكن مع بداية الحرب التي تمر بها البلاد ووضع المستشفيات تقلصت جلسات الغسيل لجلستين أو جلسة واحدة. مع شُح الأدوية والأدوات الطبية ما اضطره للخروج من غزة عبر تنسيق طبي لبعض مرضى الامراض المزمنة”.
كان لفادي نصيب أن يكون من ضمن هؤلاء المرضى الذين ساعدتهم الفرصة للخروج متجهين إلى مستشفى السلام في مصر، ليُكمل رحلة علاجه دون السماح لذويه بمرافقته. فكان على فادي الشاب في مقتبل العمر مواجهة المرض وحده في بلد لا يعرفها ولا تعرفهُ، يقف كل يوم بل كل ساعة أمام شاشة التلفاز ليتابع الأخبار عن الحرب في غزة. يحاول مرات عديدة حتى يتسنى له مكالمتهم فلا اتصالات ولا انترنت، كل وسائل التواصل مقطوعة عن غزة إلا في بعض الحالات وبصعوبة كبيرة. كان ينجح في التواصل فيتنفس الصعداء بعد الاطمئنان عليهم وينسى وجعه أمام وجعهم. ويُكمل رحلة علاجهِ وحيداً. أفراد الأسرة جميعهم يحاولون الخروج من غزة للوقوف معه في رحلة علاجه ومساعدته، يحاولون التنسيق للخروج من غزة مراراً وتكراراً دون جدوى.
يعود خليل مضيفاً: “في نهاية ديسمبر الماضي، حالنا كحال معظم سكان قطاع غزة فقد دُمر بيتنا الدافئ، ولم ينتهي عام 2023، إلا بوفاة أغلى إنسان والدي الحبيب الذي أُصيب بجلطة نتيجة الضغوط والاكتئاب والحزن على بلده التي أحبها وترعرع فيها، نتيجة الظروف المتتالية الصعبة التي مررنا بها”.
جاء التنسيق أخيرا بعد طول انتظار، في 24 ابريل 2024، أحست لارا بفرحة لا توصف لأنها ستنطلق للحرية من جديد، فهي فتاة شابة يافعة منطلقة نحو الحياة بكل حب، سعادة، شغف، تتسم بالتسامح والعطاء. تخيلت لارا أنها أخيراً ستكون على موعد للقاء فادي فهو الشقيق الأقرب لها. وأنها ستعود للحياة فجمعت أحلامها من جديد وانطلقت لتكمل حلمها ودراستها الجامعية متجهة إلى مصر هي ووالدتها (وفاء). فرغم الجراح والأيام الصعبة، إلا أنهم أخيراً حصلوا على الموافقة للخروج من غزة بعد عذاب. على الرغم من صغر مساحة قطاع غزة إلا أن رحلة الوصول للمعبر قد تستغرق يومين بسبب اجراءات الاحتلال والحصار المشدد ومنع حرية الحركة. ورحلة التنسيق قد تحتاج لشهر.
وَدَعت لارا احبائها واصدقائها وجميع من كانوا معها في الكنيسة استعداداً للسفر إلى القاهرة. يقول خليل “ذهبت لارا مع امي سيراً على الأقدام عشرات الكيلومترات في يوم مشمس حار جداً، في رحلة العذاب من غزة إلى رفح، والتي يُمنع فيها التنقل بأي مركبات بل عليهم السير بين الركام والهدم، بين جثث الشهداء، بين دبابات وطائرات الاحتلال التي تُحلق فوقهم على ارتفاعات منخفضة دون توقف. عليهم السير في مدينة الاشباح لمدة 4 ساعات أو أكثر لكي يتمكنوا من الوصول لأقرب بلدة يُسمح للسيارات فيها بالتنقل والحركة (بلدة الزوايدة). التي قد تستغرق في الوضع الطبيعي نصف ساعة بالسيارة. فالمسافة لا تتجاوز 15كيلومتراً. سارت لارا في طريقها المليئة بالمخاطر والخوف سارت وسارت، وعند اقترابها ووالدتها من تلك البلدة، كان عليهم السير ما يقارب النصف ساعة – لساعة تقريباً لتصل للزوايدة ويستقلوا سيارة متوجهين إلى المعبر، حصل ما لم يكن متوقعاً لم يتحمل قلبها الصغير ولا جسدها المنهك مواصلة رحلة الموت، سقطت لارا أرضاً وكأنها هربت من الموت لتجد الموت ينتظرها على الطريق. لفظت أنفاسها الأخيرة أمام والدتها.
حاولت والداتها رفعها وحملها ظناً منها بأنها قد فقدت الوعي، لم يخطر في بالها أنها فقدت ابنتها المدللة الصغيرة للأبد. تمالكت نفسها وتغلبت على تعبها، واتصلت بأحد اصدقائهم من سكان بلدة الزوايدة. وعلى الرغم من صعوبة الطريق والخطر من قِبل قوات الاحتلال التي أطلقت النارعلى مركبتهم أكثر من مرة، إلا أنهم اصروا واستطاعوا بعد رحلة شاقة للوصول إليهم. عند وصولهم وجدوا وفاء فاقدة للوعي. على الفور نقلوهم لمستشفى شهداء الاقصى في دير البلح، للأسف كانت لارا قد فارقت الحياة. عندما استيقظت وفاء صباح اليوم التالي من صدمتها لم تجد ابنتها بجانبها واخبروها بخبر جاء عليها كالصاعقة، لا زالت تحت تأثيره حتى يومنا هذا فالصدمة ترافقها ولم تستوعب ولن تستوعب، فحياتها توقفت عند تلك اللحظة. بقيت حياتها، مشاعرها واحاسيسها في الزوايدة في أرض يمتلكها أحد اصدقاء العائلة، حيث وارى جثمان ابنتها الثرى هناك دون أي مراسم وشعائر جنائزية كنسية.
على الرغم من كل الصعاب اصرت وفاء أن تصل إلى فادي لتكون معه في هذا الوقت الصعب، فهو في أمس الحاجة لها. واضطرت أن تُكمل مسيرها للقاهرة وحيدة. على أمل بنقل رفات لارا ذات يوم إلى كنيستها ومدينتها التي أحبتها.