إن معاناة الشعب الفلسطيني مع الاحتلال الاسرائيلي، لا تقتصر على اقتحام المدن والقرى الفلسطينية، أو استهداف الشبان وهدم المنازل، وانتهاك حرمة المقدسات الاسلامية والمسيحية والتنكيل بالمصلين، ان هذا الاحتلال الغاشم يستهدف كافة مناحي الحياة الفلسطينية، وقصتنا هذه المرة نموذج لصمود واصرار لتخطي كافة العقبات والعراقيل التي تضعها سلطات الاحتلال لتنال من ارادة شعبنا الذي يصر منذ أكثر من 75 عاما على التمسك بكل شبر في فلسطين.
مدرسة السالزيان استطاعت أن تجسد النضال الوطني الفلسطيني في الحفاظ على هويتها ورسالتها أمام كل ما تواجهه من تحديات، لتنشىء جيلاً واعداً متمسكاً بوطنه وقضيته العادلة.
يعود تاريخ مدرسة السالزيان الى ستينات القرن الماضي، حين قامت رهبنة بنات مريم أم المعونة القادمة من ايطاليا بشراء قطعة أرض في مدينة بيت جالا، بالتحديد في منطقة دير كريمزان، حيث بلغت مساحة الأرض 102 دونم، تمتد حدودها من بيت جالا وصولاً لمنطقة الولجة التابعة لمحافظة القدس بحسب التقسيمات الجغرافية لفلسطين.
منذ أن شرعت الحكومة الاسرائيلية في بناء جدار الفصل العنصري، أصبحت أراضي المدرسة مهددة بالمصادرة، وهنا تكمن مخاوف مديرة المدرسة ورئيسة الدير، التي تواصلت معها اللجنة الرئاسية العليا لشؤون الكنائس، والتي أوضحت أن أول بناء بني في العام 1970 كان عبارة عن بيت صغير مكون من طابقين، كل طابق ينقسم الى غرفتين يسمى حينها “بيت الابتداء”، كانت الرؤية حينها ولما يقارب ال 10 سنوات لتدريب وتهيئة الاناث ممن لهم الدعوة للرهبنة، ومن ثم تحول البيت لاستقبال الراهبات المسنات والمتقاعدات.
مع مطلع العام 1985، نتيجة للاحتياج الكبير في المنطقة، قامت الرهبنة ببناء مبنى جديد مكون من ثلاث طوابق (ستة شقق)، استخدم الطابق الأرضي كمشغل خياطة لتعليم فن الحياكة، والقسم الآخر تم تجهيزه لرياض الأطفال وكان يستقبل سنوياً ما يقارب ال 60 طفلاً، كما استخدم خلال العطلة الصيفية كمسرح ونادي للمخيمات الصيفية، اما الطابق الثاني فكان يضم الكنيسة ودير الراهبات، فيما استخدم الطابق العلوي لما يعرف باسم الرياضة الروحية “خلوة الراهبات الروحية”، إضافة الى قاعة للاجتماعات والمؤتمرات.
في العام 2007، أُغلق مشغل الخياطة لعدم الاقبال من المتدربات، وحينها قررت الراهبات استخدام هذه المساحة لتكون النواة لبداية مرحلة جديدة في حياة الرهبنة، وتم افتتاح أولى الصفوف المدرسية للمرحلة الابتدائية، تقول الراهبة “بدأنا مع الصف الأول الابتدائي وعام بعد عام افتتحنا فصول جديدة، حتى وصلنا في العام 2017 الى الصف التاسع من المرحلة الاعدادية”، مضيفةً “إن ادارة المدرسة هدفها التوسع والبناء لخدمة أكبر عدد وأوسع شريحة من الطلبة من ابناء مدينة بيت جالا والمناطق المجاورة (الخضر، المخرور، مخيمي الدهيشة وعايدة وغيرها)”، حيث وصل عدد الطلاب الى 300 طالب وطالبة.
مع حلول العام 2019، تراجع عدد الطلبة المنتسبين للمدرسة وكان السبب الرئيسي تخوف ذوي الطلبة من محاذاة المدرسة لجدار الفصل العنصري، عدا عن مستوطنة جيلو والمقامة على اراضي فلسطينية والتي لا تبعد سوى 2 الى 3 كم كحد أقصى عن المدرسة.
إن جدار الفصل العنصري يعيق حياة الفلسطينيين جميعاً، ويفصل بين المدن والقرى، ويلتهم مساحات شاسعة من أراضي الكنائس والمواطنين الفلسطينيين المسيحيين والمسلمين، وكما ذكرنا سابقاً إن اراضي السالزيان احد هذه الاراضي المهددة بالمصادرة، وكان المخطط الاسرائيلي شق الأرض من منتصفها، ليصبح جزءا منها داخل الجدار والجزء الآخر خارج الجدار، بمعنى جزء يقع في مناطق السلطة الفلسطينية والآخر في المناطق الاسرائيلية، وعلى أبسط مثال بحسب الخطة يقع مكتب مديرة المدرسة في المنطقة الفلسطينية أما غرفتها الشخصية والملاصقة للمكتب تقع ضمن المنطقة الاسرائيلية، وهنا كان موقف الراهبات حازماً، واضحاً وصريحاً برفض هذا الاجراء، وكان رد الاحتلال بتحويل مخطط الجدار ليضع المدرسة داخل دائرة مغلقة يحيطها جدار الابرتهايد من كافة النواحي.
تقول الراهبة ” انتهينا في العام 2009 من تصميم المخططات الهندسية للتوسع في المدرسة ولتشمل كافة المراحل التعليمية من رياض الأطفال وحتى الثانوية العامة، ولكن الاجراءات الاسرائيلية أدت الى تراجع في عدد الطلاب المنتسبين، وهنا تحطمت امالنا خاصة بعد أن رفضت ما يعرف باسم ” بلدية القدس” أن تمنحنا التصاريح اللازمة للبناء لأن الاراضي تقع في المناطق “ج” بحسب التصنيف الاسرائيلي، وتضيف “حاولنا بشتى الطرق القانونية وتوجهنا للمحاكم الاسرائيلية للاعتراض على هذا القرار المجحف بحقنا، ولكن كانت دائما قرارات المحكمة لصالح بلدية القدس”.
عدا عن كل ما سبق، تقول مديرة المدرسة “ان مخاوفنا على الطلاب والمعلمين وطواقم المدرسة يومية، وخاصة خلال الذهاب والإياب من والى المدرسة، وهذا بسبب أعمال العربدة والمضايقات من قبل جنود الاحتلال، اضافة الى الحواجز المفاجأة التي تعيق الوصول في الوقت الرسمي للدوام المدرسي، وفي بعض الاحيان تطلب سلطات الاحتلال من ادارة المدرسة تزويدهم بكشوفات باسماء المعلمين والعاملين والراهبات للتدقيق على الدخول والخروج من المدرسة، وتتزايد هذه الاجراءات بشكل خاص في فترة الاعياد اليهودية”. وتضيف على سبيل المثال ما حدث في العام 2019، حين سمحت سلطات الاحتلال للطلاب بالدخول الى المدرسة ومنعت الطواقم التعليمية واحتجزتهم لساعات طويلة، وتم السماح لهم بالمرور بعد مفاوضات امتدت لما يقارب الساعتين، مما سبب الذعر والخوف للطلبة بسبب تواجدهم في المدرسة دون مدرسيهم كما شاهدوا بأعينهم الاجراءات الاسرائيلية الاجرامية بحق مدرسيهم.
اختتمت الراهبة حديثها قائلة ” نحن في غموض، ونتخوف من المستقبل في ظل ما يمارسه الاحتلال معنا من صمت، ونتوقع في اي لحظة اصدار قرار بمصادرة الأرض او شقها لصالح جدار الفصل العنصري، أو ربما يتم وضع بوابة على مدخل المدرسة”.
الراهبة باستمرار تدعو الجميع للوقوف الى جانب المدرسة ومساندة الراهبات للاستمرار في رسالتهم، والحفاظ على الهوية الفلسطينية لهذه الأرض المقدسة وتعزيز صمودها.
انهت الراهبة كلامها بقولها “الله معنا دائماً لذلك نحن لا نعرف المستحيل”