منذ السابع من اكتوبر 2023، لم يعد قطاع غزة كما عهدناه، وكأن عجلة الحياة توقفت، ليخيم مكانها شبح الموت الذي يلاحق سكانها، تارة يجبرهم على ترك منازلهم والنزوح نحو الجنوب، وتارة اخرى يستهدفهم بأبشع انواع القتل وجرائم الحرب، لتترك اشلاء اطفالها ونسائها وشيوخها على قارعة الطريق فريسة للحيوانات التي انهكها الجوع أيضا بسبب حرب الابادة الاجرامية الاسرائيلية، والمجاعة الانسانية الممنهجة التي يتعمد الاحتلال الاسرائيلي تنفيذها. والتي تعتبر الاشرس والاعنف في العصر الحديث.
حتى يومنا هذا ارتقى اكثر من 34 الف فلسطيني معظمهم من الاطفال والنساء ناهيك عن من ما زال منهم تحت انقاض وركام منازلهم التي دمرتها أطنان المتفجرات على رؤوس ساكنيها، إضافة إلى الكم الهائل من الجرحى والمصابين والذين تجاوزت اعدادهم الـ 80 ألف، عدا عن استهداف الكنائس والمساجد والاماكن التاريخية والمدارس والمستشفيات.
المسيحيون والمسلمون في قطاع غزة يواجهون ذات المصير، على بقعة جغرافية في فلسطين تحولت الى مقبرة جماعية، بعد أن كان اسمى أماني أطفالها حياة كريمة ومستقرة كباقي أطفال العالم، ولكن قسوة محتل اغتصب ارضهم منذ 75 عاما سلبتهم حقهم في الطفولة والإنسانية، لينتهي بهم المطاف امام جثمان والدهم الشهيد والذي قُتل حين كان ينتظر وصول المساعدات الإنسانية ليسد بعضاً من جوعهم، أطفال قطاع غزة سُمع أنينهم في عواصم العالم، وصرخاتهم من بين الركام نادت مستغيثة لانقاذ ما تبقى من طفولتهم، لا تعليم لا هدوء لاراحة لا نوم.
اصوات القذائف والرصاص تحيط بهم من كل صوب، وصوت طائرة المراقبة الاسرائيلية والمعروفة غزيا باسم “الزنانة” نظرا لصوتها المزعج، تحوم في السماء دون توقف وترصد كل تحرك، وتحرمهم حتى من نومهم، كذلك الوضع الصحي في القطاع اصبح كارثياً وهناك انتشاراً كبيراً للأمراض المعدية وخاصة مع الاكتظاظ في اماكن النزوح، وشح الادوية والموارد الطبية، عدا عن خروج معظم المستشفيات عن الخدمة بسبب استهدافها المباشر من قبل الاحتلال، واستشهاد العديد من الطواقم الطبية.
في حديث مع السيدة نور عياد والتي تبلغ من العمر 33 عام، والتي استشهد زوجها هاني ابو داود 44 عاما، تقول “أنا أم لاربع أطفال انجبت آخرهم مع بداية الحرب. “منذ أربع سنوات أُصيب زوجي بفشل كلوي واحتاج لـ 4 جلسات غسيل للكلى أسبوعياً“. تُضيف مع الحرب ونظراً لسوء الوضع الصحي وتدهور المرافق الطبية، اضطر للغسيل مرتين في الاسبوع، ما أدى إلى تدهور وضعه الصحي بشكل كبير، نُقل على إثرها إلى مستشفى الشفاء بغزة، ومع سيطرت جيش الاحتلال على المستشفى، نزح لمدينة خان يونس وحيداً دون عائلته، وما لبث أن وصل هناك عند أحد اصدقائه حتى أصدرت قوات الاحتلال اوامرها باخلاء المنطقة. فاتجه لمستشفى أبو يوسف النجار في مدينة رفح، واستشهد هناك بعد ايام، ولم يُدفن في مدفن عائلته أو كنيسته التي أحبها، حالهِ كحال السيد وسام ترزي، ولم تجرى عليهم المراسم الدينية المسيحية وذلك لمنع قوات الاحتلال الحركة والتنقل بين مناطق ومدن وأحياء القطاع، فالمدينة أضحت مدينة اشباح يلفُها الموت من كل مكان والدمار والخراب للبينة التحتية التي تجاوز عمرها مئات وآلاف السنين.
أما السيدة امال ميخائيل تقول “الحرب كانت سبب في خسارتي لوالدتي منذ شهرين، والتي اصيبت بالعديد من المشاكل الصحية منها الالتهابات وبسبب عدم توفر الرعاية الصحية المناسبة وشح الادوية العلاجية، تدهورت حالتها بشكل كبير وشخصت بالفشل الكلوي مما ادى لوفاتها“، وتُكمل والحزن يملىء صوتها “ايضا فقدت ابن اخي الشاب سربيون، الذي سقط من علو في كنيسة العائلة المقدسة للاتين أثناء قيامه بأعمال صيانة للكنيسة وهو احد النازحين فيها، ونُقل لمستشفى الشفاء وكان بحاجة للمكوث في غرفة العناية المكثقة ولكن بسبب الارتفاع في اعداد المرضى والمصابين الغير مسبوق، اضطر ان يبقى في غرفة الاستقبال الى ان استشهد هناك بعد 4 ايام.
بعد أقل من أسبوع من بدء الحرب أي منذ 7 شهور تقريباً، أمرت قوات الاحتلال ساكني مدينة غزة على ترك منازلهم واللجوء لجنوب القطاع، وذلك تمهيداً لأكبر عملية برية في القطاع. فنزح ما يزيد عن 80% من سكان المدينة متجهين نحو الجنوب. بينما لجأ مسيحي القطاع إلى كنيسة القديس برفيريوس للروم الارثوذكس، وكنيسة العائلة المقدسة للاتين. موزعين على النحو التالي 350 شخص تقريبًا في كنيسة الروم، و600 شخص في كنيسة اللاتين. بتاريخ 19 أكتوبر استشهد 17 نازح، جراء قصف صاروخي طال مبنى لجنة وكلاء الكنيسة الارثوذكسية، وبعدها بأشهر قليلة استشهدت أم وابنتها نتيجة قنصهم اثناء تواجدهم مساءً في مطبخ كنيسة اللاتين. لم تكتمل صورة الموت بعد فالمربية الفاضلة المسنة إلهام فرح أُصيبت وتُركت في الشارع ملاقاه على الطريق حتى الموت. النازحون الملتجؤن للكنائس تركوا منازلهم على أمل العودة إليها، ولم يعرفوا بأن ما يُقارب الـ80% من منازلهم ستكون معرضة للدمار سواء بشكل كلي أو جزئي. وهذا ينطبق على مصادر الرزق للعديد من العائلات المسيحية، على سبيل المثال وليس الحصر بنسبة أولية وأعداد مبدئية، يوجد 3 مصانع خرجت عن الخدمة لتدميرها أو حرقها، أكثر من عشر محال تجارية تم تدميرها وأصبحت غير صالحة، تم تدمير الكثير من المرافق العامة التي كانت تخدم المجتمع الغزي بكافة أطيافه مثال:
المستشفى العربي الانجيلي والكنيسة التابعة له، مدرسة العائلة المقدسة، مدرسة راهبات الوردية، جمعية الشبان المسيحية وقد تم تدميرهم بشكل جزئي. أما المركز الثقافي الارثوذكسي دُمر بشكل كامل. حُرقت جمعية مجلس كنائس الشرق الاوسط والعيادات التابعة لها دُمرت كعيادة الدرج والشجاعية، ومركز التدريب المهني في غزة وفي القرارة تم تدميرهم بشكل كامل. تدمير المستشفيات ونقص الأدوية فاقم الوضع سوءاً، لا سيما للمسنين النازحين داخل الكنيسة، بحسب التقارير توفى ما يُقارب الخمسة عشر شخصاً معظمهم بأمراض كان من الممكن علاجها، ولكن نتيجة نقص الرعاية الصحية فقدوا حياتهم، ففي غزة يُمنع المرض، من يمرض كمن حُكم عليه بالاعدام من قوات الاحتلال.
هكذا تبدو ملامح الصورة في قطاع غزة ولكن ملامحها ليست كاملة، وخاصة مع تعمد الاحتلال قصف كافة شبكات الاتصال في غزة واستهداف الصحفيين وارتقاء بعضهم ومنع الاخرين من الوصول لتغطية الاحداث.
ومازال صوت اهالي قطاع غزة الحبيب يقول:
“مرهقون.. مثقلون بالهموم.. نعيش اياما تشبه كل شئ إلا الحياة.. ولكننا لن ولم نفقد الأمل بغدٍ ستشرق فيه شمس الحرية من جديد“.