منذ السابع من أكتوبر 2023، يعاني قطاع غزة، بمكوناته جميعها من مسلمين ومسيحيين، نساءً ورجالًا، أطفالاً وشباباً وكباراً، من حرب إسرائيلية إجرامية بشعة أودت بحياة الآلاف من الأبرياء. لقد شهدت 365 يوماً من العنف، حيث تتعرض ليالي القطاع لأبشع الجرائم في العصر الحديث، في ظل صمت دولي يكتفي بالمشاهدة بينما تتناثر أشلاء الأطفال في الشوارع، وجثامين الشهداء تتدلّى من المنازل التي استهدفها الطيران الحربي الإسرائيلي.
حوّلت هذه الحرب الإجرامية، التي تشنها إسرائيل براً وبحراً وجواً، قطاع غزة إلى كومة من الدمار، وصرنا نشاهد شوارع وأرصفة تتحول إلى مقابر جماعية، لقد خلّفت هذه الحرب الآلاف من الشهداء والجرحى وشردت الكثيرين من منازلهم، حيث دُمِّرَت ممتلكاتهم بشكل كامل.
وفي هجماتها الوحشية لم تسلم المستشفيات والمراكز الطبية، حيث خرج بعضها عن الخدمة بسبب الاستهداف الغاصب المباشر، بينما حُرِم البعض الآخر من الإمدادات الأساسية. كما تعرضت المؤسسات التعليمية ودور العبادة ومساكن اللجوء والنزوح للاستهداف، مما زاد من معاناة السكان.
أمام هذا الكم الهائل من الدمار والتشريد، وضمن متابعة اللجنة الرئاسية العليا لمتابعة شؤون الكنائس للأوضاع في قطاع غزة، أعدّت تقريراً أولياً حول الأضرار التي لحقت بالوجود المسيحي في غزة، والكنائس التي فتحت أبوابها لاستقبال النازحين منذ بداية الحرب، فقد لجأ حوالي 950 فرداً فلسطينياً مسيحياً إلى كنيستي القديس برفيريوس الأرثوذكسية والعائلة المقدسة اللاتينية، واللتان تعرضتا للاستهداف.
استهدفت آلة البطش الإسرائيلية في التاسع عشر من أكتوبر كنيسة القديس برفيريوس الأرثوذكسية حيث ارتقى 17 شهيداً، بينهم 9 أطفال. وفي استهداف آخر للكنيسة اللاتينية استشهدت سيدة وابنتها، كما تعدّت الإصابات في الكنائس 20 إصابة بعضها خطيرة. واستُهدف أفراد آخرون أثناء وجودهم خارج الكنائس كالسيدة إلهام فرح، وفقد آخرون حياتهم بسبب نقص الأدوية والرعاية الطبية مثل هاني أبو داود والشابة لارا الصايغ، ليصبح إجمالي عدد الشهداء المسيحيين منذ بداية الحرب حتى يومنا 22 شهيداً.
ومن جانب آخر، تشير التقديرات إلى أن الأضرار المادية التي أصابت منازل المسيحيين تصل 90%، منها 65% منزلاً دُمِّر بالكامل، و25% بشكل جزئي وأصبحت غير صالحة للسكن. كذلك، دُمِّرَت ثلاثة مصانع لرجال أعمال مسيحيين، بالإضافة إلى العديد من المحلات التجارية منها 8 متاجر للذهب دُمّرت بشكل جزئي وغيرها ثلاثة بشكل كامل، وعيادات خاصة ومحال لم يتم إحصاؤها بعد.
ولم تسلم المؤسسات الكنسية هي الأخرى من الدمار، حيث تعرّض المستشفى الأهلي العربي (المعمداني) التابع للكنيسة الأسقفية الأنجليكانية، ومدرسة العائلة المقدسة لهجمات بشعة، كما دُمِّر المركز الثقافي الأرثوذكسي بالكامل، واستُهدفت مدرسة راهبات الوردية، وجمعية الشبان المسيحية التي دمرت بعض مرافقها بشكل جزئي.
إضافة إلى استهداف مبنى الإدارة العامة لمجلس اتحاد كنائس الشرق الأوسط (الكنائس العالمي) الذي دُمّر جزئياً، أما العيادات التابعة له في منطقة الدرج والشجاعية وعيادة خربة العدس في مدينة رفح فقد دُمّرت كلياً، ومراكز التدريب المهني التابعة للمجلس في مدينة غزة ومنطقة القرارة فقد دُمّرت جزئياً.
هذا الدمار طال جميع مناحي الحياة، حيث فقد الطلاب عاماً دراسياً كاملاً، وهجّر أكثر من 350 من مسيحي القطاع بحثاً عن الأمان والهروب من هذا الجحيم.
إن ما يشهده قطاع غزة اليوم هو فصل مظلم آخر من الظلم والعنف الذي لا يعترف بأي إنسانية أو قدسية للحياة. أمام هذا الدمار الذي يطال الجميع، مسلمين ومسيحيين على حد سواء، لا يسعنا إلا أن نرفع صوتنا في وجه الظلم ونصرخ من أجل العدالة والسلام.
في هذه الأوقات العصيبة، نتمسك بإيماننا المسيحي الذي يدعو إلى السلام والمحبة. نذكر قول السيد المسيح: “طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون” (متى 5:9). إن دعوة المسيح إلى السلام ليست مجرد كلمات، بل هي دعوة للوقوف بجانب المظلومين والسعي لإنهاء هذا الصراع الذي يقتل الأبرياء ويدمر الأحلام.
نصلي من أجل أرواح الشهداء، ونتضرع إلى الله ليهب شعب غزة الصمود والقدرة على التمسك بالأمل رغم كل المعاناة. ونسأل الرب أن يُنير قلوب أولئك القادرين على إيقاف هذا العدوان ليتحركوا لإنهاء هذه المأساة المستمرة، وأن يعيدوا الحق لأصحابه. وفي هذه الذكرى المؤلمة لمرور عام على هذه الحرب، نتعهد بأن نصلي ونعمل بلا كلل من أجل العدالة والسلام، عسى أن تأتي لحظة ينجلي فيها الظلام وينعم فيها الجميع بالحرية والأمان.